|
الجزء الأول من الرواية: واو
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5330 - 2016 / 11 / 1 - 00:52
المحور:
الادب والفن
" ماذا تبغي من هذه الحياة..؟ " بادرتني الخانم بهذا السؤال الغريب، وكانت ما تني تتأمل لوحتها. كنتُ قد أنهيتُ هذا البورتريه، وذلك قبيل سفرها إلى أغادير. إلا أنني عدتُ ووضعت لمسات جديدة على اللوحة، في غياب صاحبتها، فنالت رضاها كما عبّرت هيَ عنه قبل قليل. أردفت " سوسن خانم "، ملاحظةً حيرتي المعقّبة سؤالها: " فالمفترض، أنّ لكل إنسان هدفٌ في الحياة. فأنا مثلاً، أسعى إلى الكمال كأمرأة تعيش في وسطٍ غريب، ومسلم فوق ذلك. إلا أنني أرى بأنك كمن يحيا بدون هدف محدد، مع كونك حُبيت بمواهب متعددة فضلاً عن مزايا جميلة في شخصيتك " " لا أراني أملكُ ما تقولين.. " " أتعمد إلى إدعاء التواضع، لكي تتهرّب من الإجابة؟ " " أنت أجبتِ بنفسك على سؤالك، مع أنه غريبٌ بعض الشيء " " أتقصد الغرابة في السؤال أم في الجواب؟ " " لقد أبديتُ لكِ أستغرابي من الجواب "، قلتُ لها مُتضايقاً نوعاً. جالت عينا مخدومتي في أنحاء المكان، قبل أن تقول بنبرتها المتسلّطة، المألوفة: " هاكَ موهبتك..! إنها مهدورة بين الحيطان، بدلاً عن إقتحامها للسوق المحلية وصولاً إلى الأجنبية. أتذكّرُ خلال زيارتي مرةً لإحدى دول الخليج، أنني تعرّفت على أعمال رسام من مصر. كان أسلوبه تقليدياً، ومع ذلك فإنه كان يجني الملايين من بيع لوحاته ". كمألوف عادتي أيضاً، فإنني كنتُ ألجأ للصمت حينَ يتجه حديثُ الفن إلى منحىً تجاريّ. كنا عندئذٍ جالسين في الخيمة البربرية، التي أضحت بمثابة المرسم بما أزدحم في جدرانها وأرضيتها من لوحاتي وأدواتي. خِلَل واجهة الخيمة، المطلّة على فناء الترّاس، كانت أشعة شمس الضحى تنفذ إلى الداخل كأسهم نارية. هذا، على الرغم من أننا أشرفنا على الشهر الأخير من الخريف والمؤذن بنهاية العام. على حين فجأة، سألتني الخانم عن بورتريه مرافقتها وطلبت أن تراه. ومع أنّ لهجتها كانت طبيعية، إلا أنني تلعثمتُ قليلاً فيما كنتُ أجيبها: " عهدتُ به إلى أحد صانعي الإطارات في سوق القنارية، وسأمرّ عليه اليوم أو غداً لأرى ما إذا كان قد أنهى عمله ". مردّ أرتباكي، كما سبقَ وعلمتم، هوَ أنني أنجزتُ لوحةً ذاتَ موضوعٍ اسطوريّ جعلت فيها " الشريفة " موديلاً عارياً للعنصر النسائيّ الوحيد فيها. تلك اللوحة، بحَسَب توصيتي لصانع الإطار، عليها كان أن تختفي خلفَ لوحة البورتريه بما أنهما بنفس الحجم. " الماكرة..! إنها ولا ريب مَن أعلمت مخدومتها بأمر البورتريه "، فكّرت في نفسي. وكنتُ أعني المرافقة، كونها الوحيدة التي تعلم بأمر اللوحة. ذلك أنّ " سوسن خانم " لم تكن تشغّل خادمات في جناحها؛ فهيَ تكتفي في نهاية كل أسبوع بإستدعاء بعضهن من المقر الرئيس للإقامة الفندقية، بغية إجراء التنظيف اللازم للفرش والأثاث والأكسسوارات. لم تكن تثق سوى بمرافقتها، وكانت هذه تخدم لديها أيضاً كحاملة مفاتيح وطاهية وسائقة سيارة. إلى ذلك، كان للخانم نزواتها الغريبة، على طرافتها؛ كأن تستخدم أحياناً الكوتشي في مشاويرها. وكانت تستأجر العربة مع الحوذي من نفس مقر الإقامة الفندقية. الكوتشي ( يسمونه الكرّوسة في الشام )، مثما ذكرت لي الخانم مرةً، كانت تستعيد عبْرَه ذكريات جدّتها لأبيها: " دأبت هذه المرأة الصارمة، والطيبة في آن، على أصطحابي في صغري بعربتها المشدودة إلى حصان حين أكون في زيارتها بمزرعتها القريبة من اللاذقية ". " سوسن خانم "، كانت حتئذٍ شخصية مُلغزة بالنسبة لي، وكأنها بلا ماضٍ. فكما لحظتم آنفاً، فإنها كانت تكتفي بإرسال إشارات عن حياتها السابقة ولكن بإتجاهات متضاربة ودونما أيّ تفاصيل. ربما أنّ أصطفاءها لنا، أنا والمرافقة، مردّه لكوننا غير فضوليين وثرثارين. من ناحيتي، فإنني كنتُ معتاداً على طريقتها في سرد شذرات من سيرتها، والتي كانت تقطعها على غرّة لتنتقل إلى موضوع مختلف تماماً. " الشريفة "، ذات الجذور الريفية المرتوية بالمكر، كانت أكثر حذاقةً مني في إستدراج مخدومتنا إلى البوح بمكنونات بئرها. فلم يطل بها الأمر، لكي تتحوّل إلى نجيّة وكاتمة أسرار. غير أنّ " الشريفة "، للحق والإنصاف، لم تبدأ بفتح فمها إلا بعدما استبعدتها الخانم من الخدمة على أثر كشفها لعلاقتنا المحرّمة. ذلك حصل بسبب اللوحة نفسها، السرية. ففي أحد مساءات الربيع، ومع هبوب الريح الشرقي بشكل عاصف، سقطت تلك اللوحة من على جدار المرسم المغطى بالقماش ذي النقوش البربرية. بمحض الصدفة، كنتُ آنذاك في صالة الجناح أتابعُ مع الخانم من جهاز التلفاز أخبارَ النزوح المليونيّ لكرد العراق على أثر تحطيم ثورتهم المعقّبة حرب الكويت. كان الجوّ مشحوناً، نتيجة إختلاف الآراء بيني وبينها بشأن مسؤولية تلك المأساة الإنسانية. فلما صعدتُ معها إلى الترّاس، بغية تفقّد أضرار العاصفة، فإنني أنتبهتُ إلى أنّ إطار اللوحة المعنية كان مهشّماً بحيث ظهرت اللوحة السرية. رفعت " سوسن خانم " اللوحة المرمية بين أدوات الرسم والخرق الملوثة بزيت الألوان، ثمّ راحت تمعن النظر في كائنها النسائيّ الوحيد. عيناها المدهوشتان، كانا قد أنحدرا من ملامح المرأة إلى مؤخرتها، المتكوّرة كثمرة يقطين عملاقة، ذهبية القشرة. " كان بإمكانكَ طمس ملامح صاحبتك، بدلاً عن تجشّم عناء إخفاء اللوحة بهذا الشكل.. " قالتها الخانم بدون أن تنظر نحوي. ثم أردفت، وكانت تتنهّد بعسر: " على أنك، من ناحية أخرى، كنتَ محقاً في كشف هوية الشريفة؛ طالما أنّ ردفيها سيفضحانها بأيّ حالٍ من الأحوال! ". بقيتُ صامتاً، بما أنني لم أشأ مفاقمة الأمر بالكذب. مع أنه كان بودّي التوضيح، بالقول: " اللوحة أنجزت خلال عدة جلسات، وبدون أن يتخللها أيّ إتصال جسديّ. بل إنّ ذلك الإتصال جرى في مناسبة أخرى، وإغتصاباً، على خلفية غيرتي عليكِ بعدما أعترفت لي الشريفة بوجود علاقة مثلية بينكما..! ". قطعت الخانم أفكاري، حينَ شاءت مواصلة الكلام بما يُشبه الهذيان: " المرأة المغربية، هيَ أجمل عادةً عندما يُنظر إليها من الخلف. إلا أنّ مرافقتي قد حظيت بسحر الملامح، أيضاً. ما رأيك؟ " " ما أنا متأكّدٌ منه، هوَ أنّ هذه ليست المرة الأولى التي تقف فيها امرأة أمامي كموديل " " بلى، وليست المرة الأولى كذلك بالنسبة للشريفة كموديل. ولكنني أستطيع تمييز ضربات ريشتكَ على مؤخرتها من ضربات غيرك! "، ندّت عنها مع ضحكة جافة. إنّ ما كان يجعلني إذاك مبالياً لدرجة الجنون، هوَ معرفة ما إذا كانت " سوسن خانم " تغار عليّ أم على مرافقتها؟
*مستهل فصل جديد من رواية " الفردوسُ الخلفيّ "
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجزء الأول من الرواية: هاء 3
-
الجزء الأول من الرواية: هاء 2
-
الجزء الأول من الرواية: هاء
-
الجزء الأول من الرواية: دال 3
-
الجزء الأول من الرواية: دال 2
-
الجزء الأول من الرواية: دال
-
الجزء الأول من الرواية: ج / 3
-
الجزء الأول من الرواية: ج / 2
-
الجزء الأول من الرواية: ج / 1
-
الجزء الأول من الرواية: ب / 3
-
الجزء الأول من الرواية: ب / 2
-
الجزء الأول من الرواية: ب / 1
-
الجزء الأول من الرواية: أ / 3
-
الجزء الأول من الرواية: أ / 2
-
الجزء الأول من الرواية: أ / 1
-
الفردوسُ الخلفيّ: تقديم 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: تقديم 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: تقديم 1
-
غرناطة الثانية
-
الرواية: ملحق
المزيد.....
-
فنانة مصرية شهيرة تناشد الرئيس السيسي
-
حسين الجسمي يرد على صورة مع بلوغر إسرائيلي ويثير تفاعلا.. صو
...
-
-مبدعة في النثر المعاصر-.. جائزة نوبل في الأدب 2024 تذهب للك
...
-
انطلاق فعاليات مهرجان الهايكو الثاني في اتحاد الأدباء
-
فيلم -جوكر 2- يحبط الجمهور والنقاد ويصنف كـ-أسوأ فيلم لعام 2
...
-
مطاردات القط والفأر.. تردد قناة كوكي كيدز الجديد 2024 علي ال
...
-
مــوقع وزارة التعليم العالي لـ نتائج المفاضلة سوريا 2024 moh
...
-
وصفها بالليلة -الأكثر جنوناً- في حياته.. مغني أمريكي قطع حفل
...
-
إختتام مهرجان قادة النصر الأدبي والفني والإعلامي الرابع في ب
...
-
صربيا.. قبر تيتو في قلب الجدل حول إرث يوغوسلافيا
المزيد.....
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ أحمد محمود أحمد سعيد
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
-
والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
المزيد.....
|