أمير بالعربي
الحوار المتمدن-العدد: 6281 - 2019 / 7 / 5 - 17:17
المحور:
الادب والفن
بقية الكلام الذي قيل بين ماما إيناس وبابا صعب , صعب جدا !!
لم يصلنا إلا عندما كبرنا , لأنه لا يمكن للصغار فهمه . وقد أخذ منا الوقت الكثير لنفهمه وبعد ذلك لنقبله ... أنا وأمينة ...
والحقيقة أننا لا نزال نتساءل : هل كنا سنفهم لو لم تكن ماما بنفسها هي التي قامت بشرحه لنا ؟
- هل أحببتها ؟
- تعرفين جيدا أني لم أفعل ...
- أعرف ...
- وتعرفين جيدا من ... أحب و ... كيف ...
- أعرف ................................................................................... أعرف !
- لن نعود للماضي ...
- أراه في عينيكَ , وتراه في عينيّ ... أميرة لم تمت ولن تموت ... نحن قتلناها , أنت قاتل وأنا قاتلة , نحن السبب ... ولن تستطيع أن تخدعني وأن تتظاهر بعدم الضعف ... أعرفك جيدا ويكفيني النظر في عينيك لأعرف كل شيء !
- لنقل نعم ! ثم ماذا ؟ الحياة يجب أن تستمرّ ...
- قلها ...
- ندمتُ لأني غضبتُ على جمال , سأعتذر منه عندما نصل ... دائما يصبر عليّ , ولم يوجعني يوما بكلمة ... عكسي أنا ...
- قلها !
- يا ترى عن ماذا يتكلم هو و .... الدكتورة الآن ؟
- قلها !!!
- اللعنة ! لن أفعل !
- بل ستفعل , من أجلي ! قلها !
- لماذا الآن ؟ اتفقنا أن أي كلام يجب أن يكون بحضور ثلاثتنا !
- لا داعي لتذكيرك أن جمال لا يغيب أبدا ...
- ولا داعي لأن أقول أن أميرة لن تغيب .... أبدا ! اللعنة إيناس ! لماذا الآن ؟ لماذا الليلة بالذات ؟ هذه ليلتنا ... هذه ليلتكِ , المستقبل لا الماضي ... نريد أن نفرح , أن نسعد , لا أن نعيش آلام الماضي من جديد ! اللعنة ! وكأنكِ وجمال تعمّدتما كل شيء !
- لا أحد منا يؤمن بالقدر ...
- ولم أقل أنكما قد تعمّدتما ! لكن الصدف كانت أعجب من العجب هذا اليوم ... الآن عندما أفكّر في كل ما حدث أشعر وكأنها عادت من جديد ... وتصرَّفنا كلنا دون أن نعي شيئا وقبل أن نعرف عنها أي شيء ... تعرفين , أنا من جذبتُها بالقوة حتى عمود الكهرباء وأنا من استجديتها لتنزل ... وأنتِ من فرضتِها علينا الليلة وقد كسرتِ بذلك كل عهودنا ... وجمال من سلّمك المفاتيح ومن قبل بأن تقودي وهي بجانبك ... ولا أعلم ما الذي سيحدث في الساعات القادمة !
- ليتني كنت أصدق بقصص عودة الأرواح ...
- ليت جمال كان معنا الآن ! أعرفه جيدا وتعرفينه , سترين أنها عندما ستنزل ستكون كما لو أنها تعرفنا منذ سنين !
- أرجوكَ , حتى وإن كان وهما , دعنا نعشه ...
- يستحيل أن أسمح بذلك , وجمال أيضا لن يقبل !
- لن تستطيعا الوقوف أمام رغبتي ...
- ربما هو سيذعن , أما أنا فأعدكِ أني لن أفعل ولن أسمح لكِ بأنـــــــــــ ... تشوّهي ذكراها !
- قلها إذن ماذا تنتظر ؟
- لن أقول أي شيء بل سأفعل ما يجب عليّ فعله , وعدتكِ ويجب أن أفي بوعدي ... لذلك سألغي كل شيء الليلة !
قالت ماما , أن سيارتها كانت تسير وراء سيارة بابا جمال , وفجأة شغّل بابا أضواء الاستغاثة وتوقّف ... فتوقّف بابا جمال ونزل ... أرادت النزول معه لترى ما الأمر لكنه طلب منها البقاء في مكانها , وقبل الالتحاق بسيارته ... بهما ... دار من جهة ماما مبتسما ...
- أميرة ...
- نعم ...
- قصدتُ أختَ إيناس , كان اسمها أميرة ... انتظريني , سأعود , لا تقلقي ...
رأته يركب في المقعد الخلفي , ولاحظت توترا ما من حركات ماما إيناس وبابا , تحيّرت قليلا لكنها لم تفكّر في الالتحاق بهم وفضّلت الانتظار ...
كنا في الثامنة عشرة وكان يوم عيد ميلادنا عندما رووا لنا ذلك وأكملوا القصة التي سمعنا جزءا منها في صغرنا ...
كان جوابنا أننا لم نفهم , وطلبنا أن نعرف أكثر عن أميرة ... أخت ماما إيناس . وكان من المفروض أن يجيب المعنيون أكثر بالأمر أي ماما إيناس وبابا , لكننا فوجئنا -أنا وأمينة- بماما تجيب وتتكلم عن بابا جمال ...
رأينا حرجا على وجوههم , ثلاثتهم , ولأول مرة شككنا ... في كل شيء ... وفي بابا جمال !! الذي كانت تلك المرة أول مرة تجرأنا على الشك فيه , هو الذي رأيناه دوما أصل كل شيء ومؤسس أسرتنا التي علينا حمايتها من الوحوش البرية بكل وسيلة ...
لكننا لم نتجرأ على الكلام ! وماذا عسانا كنا نقول !؟؟ هناك وحوش برية داخل أسرتنا ! ومن تكون ؟! أميرة ؟! أنا وأمينة !؟ أَمْ ماما وبابا وماما إيناس !؟ أم ...... بابا جمال !!
قالت ماما أنه لم يتعمّد أي شيء , وأن كل شيء كان محض صدفة ... فسألتْها أمينة عن سبب عودته وذكره لاسم أخت ماما إيناس قبل أن يلتحق بهما ... فقالت أنها لا تعرف , لكن ذلك لا يعني إطلاقا أنه تعمّد شيئا ما !
فبكت أمينة وقالت : "ماما , لا أستطيع تصديقكِ !" , وغادرتْ المنزل , فالتحقتُ بها ...
كان ذلك يوم أكلتْ أمينة التفاحة , وناولتني منها فأكلت ... كانت تفاحة كبيرة , حمراء جميلة تفوح منها رائحة خلابة ... وعندما قطعتُ منها بعد أمينة ... لم أتعمّد ذلك , لكني قطعتُ من نفس المكان الذي قطعتْ منه أمينة ... امتزج طعم التفاح بطعم شفتيها ولسانها وريقها , وشعرتُ وكأني قبّلتها !
- إنهم يكذبون علينا ويخفون عنا شيئا ما ...
- أمينة , ربما لم يحن الوقت ليعلمونا بكل شيء ... لا يعني ذلك أن ماما تكذب ...
- كبرنا الآن ونستطيع فهم كل شيء ! إنهم يكذبون علينا !
- لا أعلم ...
- بل تعلم مثلي أنهم يكذبون ! كان ذلك واضحا على وجوههم !
- وجوههم كان حرجة ...
- والحرج علامة الكذب !
- أمينة , لا تقولي هكذا ... علينا أن نعود ونسمع منهم ...
- لا ! عليك أن تثق بي !
- أنا أثق بكِ و .... بهم ...
- هل أنا وحش بري ؟
- ماذا تقولين !
- "علينا أن نحمي أنفسنا من الوحوش" , "لا يجب أن نثق بها مهما بدت لنا طيبة ووديعة لأنها تستطيع الفتك بنا دون رحمة في أي لحظة" ... هكذا تربينا ! هل نسيت ؟
- لا لم أنس !
- إذن علينا أن نحمي أنفسنا منها , هل ستحميني ؟
- أفديكِ بنفسي !
- كلهم كذبة ... أربعتهم كذبة ... أربعتهم وحوش !
- سامحني بابا جمال ... أمينة أظن أنك قد جننت !
- اتصل بماما إيناس وقل لها أن نلتقي ...
- أين ؟ ولماذا ؟
- تعرف أين ... ماما إيناس لن تستطيع مواصلة تضليلنا ... سأجعلها تتكلم ... لكن لا تضعف ولا تخذلني !
- لا أستطيع وعدك بذلك ... لكني سأحاول ...
من عاداتنا التي تربينا عليها أن يتكلم أحدنا عند رأس بابا جمال , وأن يسمع له الآخرون الواقفون عند ساقيه . وعندما كان المتكلم أنا أو أمينة , كان ذلك دوما مكان اعتراف ووعد لبابا جمال أننا لن نعود ثانية للخطأ الذي قمنا به واعترفنا له به ... أحسن من كان يتكلم كانت ماما إيناس , وكثيرا ما كانت تبكي وتبكينا معها , أنا وأمينة . ماما وبابا كان كلامهما جميلا , لكنه لم يكن مثل كلام ماما إيناس ولا أتذكر أني بكيت عند سماعهما وكذلك كانت أمينة .
عند اتصالي بماما إيناس , وجدتها قلقة ... سألتني لماذا لم نجب عن اتصالاتهم الكثيرة فاعتذرتُ منها , وطلبت منها أن نلتقي وذكرتُ لها أن ذلك رغبة أمينة وليس فكرتي ...
عندما حضرت , كانت أمينة قد دخلت إلى المقبرة أما أنا فبقيت أنتظر عند الباب ... ضمّتني وقبلتني مرات عديدة واعتذرتْ ...
- سامحني عزيزي , لم أرد لحظة واحدة أن يحدث الذي حدث ...
- ماما ... أمينة غاضبة جدا .
- سأعرف كيف أرضيها , لا تهتم ...
- ماما ... أمينة قالت أنكم تكذبون علينا , وأننا كبرنا اليوم ويجب أن نعرف كل شيء ...
- نعم كبرتما بعد أن رأيتكما تكبران كل يوم أكثر , لو تعلم كم أنا سعيدة بكما ...
- ماما ... وقالت أنكم إن لم تفعلوا فإننا سنعتبركم وحوشا !
- لا ! لا ! لا ! لا! حبيبي , صغيري , فلذة كبدي ... لا ! كله إلا هذا ! لا يوجد وحوش في أسرتنا تعرف ذلك جيدا !
- ماما ... لم أعد أعرف أي شيء ... لندخل ... أمينة تنتظر .
كانت أمينة واقفة عند ساقي بابا جمال , لم تلتفت لنا وظلت واقفة تنظر جهة رأسه ... احتضنتها ماما إيناس من الخلف وأرادت تقبيل خدها الأيمن فأبعدت أمينة خدها إلى شمالها وإلى أسفل ولم تسمح لها : "ماما ... أنتِ من ستتكلمين , خذي مكانكِ وقولي ."
وقفتُ بجانب أمينة , عن شمالها , وقفة كأننا عسكر ... ننظر لماما إيناس دون كلام أو حركة ... انتظرنا لحظات ... جثت وقبّلت القبر , ثم وقفتْ وشرعتْ في الكلام ....
- انظر لهما كم كبرا , اليوم كما تعلم بلغا ثماني عشرة سنة , انظر كم كبرت أمينة وكم أصبحت جميلة ... لا نزال نريد لها أن تصبح طبيبة كأمها لكنها تريد الهندسة كأبيها ... لا تقلق لعدم حضورهما , هما بخير , لكن ابنتك أرادت أن نأتيك وحدنا ... شقية وعنيدة كأمها ولا أحد يستطيع أن يرفض لها طلبا , يوم عيد ميلادها ولا أستطيع أن أرفض طلبها ...
أشعر بالتعب عزيزي , وأتمنى لو كنت معي ... لا أعلم ماذا سأفعل الآن وابنتنا ترانا وحوشا ! هي تشك أننا نكذب وابننا يساندها ! لا تغضب منهما , يظنان أنهما كبرا وأول علامات كبرهم هدم أسرتنا ... اليوم أمينة ترانا وحوشا وغدا سترى أخاها كذلك وبعد غد سترى نفسها ... وسينتهي كل شيء , فتكسر قلوبنا جميعنا وتحكم علينا بالألم مدى الحياة ...
ساعدها عزيزي , وساعدنا كلنا ... أعلم أنك لن تتركها ولن تتركنا ... أحبكَ ... آمين .
قلت بعد ماما إيناس : "آمين" وسكت , وقالت أمينة بعدي : "أمين" لكنها لم تسكت ... أخذت مكان ماما إيناس التي وقفت عن يميني ... نزلت على ركبتيها , ولم تقبّل القبر ... دقائق مرّت كأنها قرون , بكت فيها طويلا وهي تضع يديها على القبر ورأسها بين كتفيها تنظر الأرض , ثم وقفتْ دون تقبيل بابا جمال ...
- بابا ... اليوم تغيّر كل شيء , اليوم كبرت ولم أعد صغيرة ... ربّيتني على أن أكون قوية وقد نجحت في ذلك , أنا ممنونة لك ... كبرت ولم أعد أخشى الوحوش مثلما كنت صغيرة , وأمين كذلك ... لكن ... سامحني , لا أعلم ما الموجب لأن تُخفى عنّا أشياء , ولا أفهم معنى ذلك , وكيف تَفعل ذلك وأنتَ تعلم أني سأصل إلى ما وصلت إليه الآن ؟ عقلي لا يستطيع أن يقبل أنك فعلتَ ذلك ! لا أريد أن أقول أنك تعمّدتَ ذلك وأنك تركتنا ! لا أستطيع التفكير وأخاف أن أضل , أرى كل شيء من حولي يهوي كقصور رمل وكأوراق خريف ميتة لتدعس تحت أقدام الحيوانات المتوحشة ! ساعدني أرجوك ولا تتركني ... آمين !
#أمير_بالعربي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟