|
المستوى الصوتي في شعر الحكمة عند الشاعر محمد علي هادي الشمري
علي حسين يوسف
(Ali Huseein Yousif)
الحوار المتمدن-العدد: 6539 - 2020 / 4 / 16 - 23:03
المحور:
الادب والفن
يعدُّ الشاعر محمد علي هادي الشمري من الشعراء العراقيين المُقِلّين الذين يزاولون كتابة الشعر ليس لغرض الشهرة أو المباهاة أو المشاركة في المسابقات والمهرجانات التي تقام هنا وهناك ؛ فالشعر عنده هاجسٌ يبدأ من الذات ولا يتفيأ سواها ؛ إنه تعبير عن حكمة الروح ورؤيتها للوجود . والملاحظ على نصوص الشمري ارتكازها الكبير على الواقع الصوتي من خلال اعتماده في تلك النصوص أغلبها على ما قَويَ من الأصوات والألفاظ . والحكمة هي النظر للأمور بعين الروية والعقل ولا تتأَتى لكل إنسان فهي نصيب من خبرته التجاريب وصقلته الحوادث وشذًبت زياداته الأيام وما أضنني أعدو شاعرنا في كل ذلك فالرجل ضابط عسكري معروفٌ خاض صروف الدهر بحلوها ومرّها فلا غرابة أن يتجسد ذلك في كتاباته . وفي قصيدة ( يا بن الفراتين ) للشمري يمكن أن نجد دليلا على ما مرَّ حيث يفتتح الشاعر الشمري النص بقوله : أَفرغْ حياضكَ واستخلص لها العِبَرا ... إِذْ راكِدُ الماءِ قد يستَبطنُ الخَطَرا حيثُ نلحظُ أن الشطرَ الأول يشبه الوصيةَ الموجهةَ للآخر ليمهد له لما سيقوله من حكمةٍ بليغةٍ تمثلت بالشطر الثاني الذي لا نختلفُ في بداهته جميعنا لكننا لم نحظَ برصده كما رصدهُ الشاعر وأوجزه في كلماتٍ قليلةٍ ؛ فمن منا لا يُدركُ ما للماء الراكِدِ من مخاطر؟ لكن في الوقت ذاته من شغلت باله هذه الفكرة إلى الحد الذي يصنع منه حكمة مثل التي وردت في بيت الشاعر ؟ وهنا يمكن أن نقول بأن اختيار الشاعر للأصوات القوية لا سيما (الراء) الذي تكرر أكثر من مرة اعطى المعنى المراد زخما معنويا يذكرنا بما اشترطه العرب في مثل هذه المواقف من اختيار الكلمات والألفاظ المؤثرة القوية . وربما تكررت الحالةُ في أغلب أبيات النص حيث غلبت السمة التوجيهية بتوظيف ألفاظ مجلجلة يكاد القارئ يستشعر صداها بسهولة وكأن الشاعر يريد أن ينقلَ خلاصة تجاربه للمتلقي من موقع الموجه لكن اللافت أن النص في أغلب أبياته اعتمد على ضمائر الجمع في دلالة واضحة إلى إفادة القوة المتأتية من التعميم وقوة الفكرة المسيطرة والاعتداد بالقول . ولنا أن نقف عند هذه النقطة فمن ناحية شمولية تعميم الحكمة باستعمال ضمائر الجمع نلاحظ أن الشاعر عمد في أكثر من بيت الى الضمير ( نا) كما في التراكيب الآتية : ( لزاما علينا ؛ بقايا عمرنا ؛ أسلافنا ؛ أيامنا ؛ أذرعَنا ؛ عنا ؛ كنا؛ بنا ؛ فينا ؛ .... الخ ) . وهذا التوجه يفيد في أقل دلالاته إلى اندماج الأنا الشاعرة بالمجموع لغرض أو لأكثر منها الشعور بالمسؤولية اتجاه الآخرين مثلا . ومن ناحية سيطرة الفكرة المراد بثّها من خلال استعمال هذه الأدوات الجمعية نجد أن أبياتاً كثيرة تشي بذلك ومنها على سبيل المثال أقواله : ( فأشف بواكفِ ؛ استكشف الامرَ ؛ وانظر في جوانبه ؛ تجد لزاماً ؛ أنظر عراقك ؛ كفكف دموعك ؛ امسح دموع يتامى ؛ هيا نشمر للعلياء ؛ ونجعل المجد .....الخ ) ولك أن تلاحظ ـ عزيزي القارئ ـ صدى هذه التراكيب وأنت تقرأها . وبتأمل التراكيب السابقة نجد أنّ الشاعر يُكثرُ من أفعال الأمر وصِيَغِهِ لغرض التنوع الصوتي وذلك كله يشي بأن هناك نزوعاً نحو التخلص من سيطرة أفكار معينة لابد أن يُتّخذ ازائها موقفاً معينا ؛ بمعنى أنها مواقف ضاغطة على ذات الشاعر ولا خلاص إلا بأن يعمل الآخر والشاعر معاً في أخذها بمحمل الجد . أما المَلمَحِ ألأخير المتجسد في الاحتمال القائل بأن استعمال الضمائر الجمعية يشي بالاعتداد بالنفس فإننا يمكن أن نفترض ذلك واقعاً فعلاً وما يعزز افتراضه أن الذات قد تكتسب من الخبرات والتجارب ما يجعلها مكتنزة حتى يتراءى لها أنها أحكمت النظر في مفاصل هذه الحياة وسبقت غيرها في موارد الحكمة ومن تمثلات ذلك لجوء الشعراء والكتاب بالتحدث بنبرة تدل على ما ذكرناه بوضوح وفي نص الشاعر محمد علي الشمري نجد تمثلات ذلك منها قوله : إذ يُنعِشُ النفس دمعٌ قَلَّ أو كثرا , وقوله : ما ينتهي خطرٌ إلاّ دعا خطرا .. وقوله : ونحن ننشد عن أسلافنا عبرا . وغيرها من الأقوال . ولا شك أنّ ذلك التوجه ليس بدعا على شاعرنا فما زالت معلقة عمرو بن كلثوم ترن في أذهاننا . ومما سبق يمكن القول أن النص السابق اصطبغ بلون الحكمة واكتسى طابعها من خلال صنيع الشاعر من الناحية اللغوية لا سيما المستوى الصوتي وبتوجيه الكلام نحو المجموع وهذا وحده دليل كافٍ ليكون هذا النص من النصوص التي يمكن أن تؤشر بوصفها شاهد على أن الشعر لابدّ أن يخدم قضايا الناس والمجتمع بصورة أكثر وقعا في حالة وعي الشاعر بما يختار من أصوات . من جهة أخرى نجد في قصيدة (بغداد) مزاوجة بين الأصوات القوية والأصوات اللينة في أغلب أبياتها مما منح القصيدة جواً من الإيقاع الواضح والصدى المجلجل كما في قوله في البيت السادس من النص : كذا العلوم غدت قفراً معاقلها إِلا الغراب بها نشوان قد نعبا نجد الأصوات ( للكاف ، والعين ، القاف ، الميم ) أصواتاً قوية مجلجلة توسطتها حروف أقلّ شدةً ، لكن هذا لا يخفي أن القصيدة بمجملها تنماز بالوقع الصوتي الحاد ، فالملاحظة لا تخفى على القارئ بأن الشاعر عمد بقصدٍ أو بدون قصد إلى تسخير ما في الألفاظ من قوة وما في الأصوات من وقعٍ مدوٍ في مسعى منه لخلق جو من التأثير والتعاطف ، كل ذلك قد يشي بأن النصّ من الناحية الصوتية يمثل اضطرابا محتدماً جاس في نفس الشاعر ليُعبر عما آل إليه أمرُ مدينته الأثيرة بغداد . إن اختيار الشاعر لحرف الباء مدعوما بألف الأطلاق منح النص ثقلا واضحا من الناحية الصوتية مما جعله في كل أبياته ينتهي بما يشبه التحسر والتأسف ، سيما وأن الشاعر يبتدئ في أكثر من بيت بأصوات أقلّ دوياً من حرف الباء مما جعل الوصول اليه مثل عملية تدرج من الأخف الى الأشد ، نلاحظ ذلك بوضوح في الأبيات الستة الأولى التي ابتدأت كلها بأحرفٍ أقل وقعاً من حرف الروي الباء . وبالانتقال الى الجنبة العروضية نجد أن النص السابق جعل من بحر البسيط وهو البحر الذي يخوض غماره ، ولا يخفى لما لهذا الوزن من قدرة على استيعاب التنوعات الصوتية التي مرّ ذكرها ، فالبسيط يتراوح بين ( مستفعلٌ فاعلن ) صعوداً وهبوطاً ثمانِ مرات ثم أن الوزن الذي اختاره الشاعرُ تنتهي أسطره بالتفعيلة ( فَعِلُنْ ) وهي من الناحية الصوتية تختلف عن جذرها العروضي ( فاعِلُنْ ) موسيقياً وصوتياً ، وربما عُدّتْ أوضح منها وأكثر إيحاءً . وقد يلحظ القارئ أن عدداً من أبيات القصيدة تآزر فيها بشكل واضحٍ البعد الصوتي مع البعد البلاغي وهو مما يحسب للشاعر كما في قوله : ودجلة الخير خجلى من بواسقها إذ مائها من عطاء الخير قد نضبا نجد الصورة معبرة جداً في الشطر الاول حيث يصور الشاعرُ دجلة مثلَ فتاةٍ خجلى تلوذُ بصمتٍ من باسقات النخيل حيث نضب ماؤها وهذه الصورة المعبرة قد اتكأت كثيراً على الجانب الصوتي ، فقد بدأ الشاعرُ الشطر الأول بحرف الواو لينتهي بالمقطع ( ها ) في كلمة ( بواسقها ) والامر واضحٌ ما لهذا الصنيع من أثر واضح أُضيف لجماليات الصورة التي صور الشاعرُ دجلة فيها . ونجد الصنيع نفسه في قول الشاعر : ما لمَجْدٌ إِلُا جَنَىً من جُرْفِ دجلَتها ... ما لعلْمُ إِلّا يَدٌ من بعض ما وَهَبا فقد تكرر حرف الجيم القوي أربع مرات مما جعل الصورة واضحة راسخة عند المتلقي وهو يشهد تمثيل المعنوي في كلمة ( المجد ) بالحسي بكلمة ( الجرف ) . وأَخيراً يمكن القول بأن النص الذي أمامنا انمازَ بوضعه الواضح الذي ما ضعُف لحظةً إِلّا ليشتدّ من جديد وهو ما جعل من جوِّ القصيدة عموماً يكتسب لوناً من السطوة الحكيمة وهو يلج تمثلاتنا عنه .
#علي_حسين_يوسف (هاشتاغ)
Ali_Huseein_Yousif#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية قصر الثعلب لابراهيم سبتي وأرشفة الوجع العراقي
-
الماركسية , تاريخها , أقسامها , مباحثها
-
كورونا , صراعٌ مع الإنسان وتوظيفٌ سياسي للأزمة
-
الفلسفةُ , أسسها , مباحثها , أقسامها
-
المعنى من التطابق إلى التشتت
-
كيفية كتابة بحث في العلوم الانسانية
-
التداولية , ملمح تعريفي
-
نحو تداولية الخطاب المعاصر أو ترويض الخطابات
-
مقتل الحسين كما صورته كتب التاريخ والتراجم
-
الرثاء في الشعر العربي , التمثلات والبواعث
-
الواقعُ نصَّاً سرديّاً , قراءة في مجموعة (رغبات بعيدة المنال
...
-
موجِّهات السرد في رواية (السقشخي) لعلي لفته سعيد
-
ما سكت عنه السرد , قراءة في رواية (وحي الغرق) لساطع اليزن
-
توظيف اليومي في الرواية العراقية ، شوقي كريم أنموذجاً
-
جماليات السرد في رواية (النوتي) لحسن النجار
-
معاناة الشعوب فعلا سرديا , قراءة في رواية جمهورية باب الخان
...
-
الحقيقة المؤجلة
-
صورة الوطن بين روايتي موسم الهجرة إلى الشمال وكش وطن , مقالة
...
-
اللغة والعرفان
-
الفلسفة والجنون ... غرائب من حياة الفلاسفة
المزيد.....
-
كاتبة هندية تشدد على أهمية جائزة -ليف تولستوي- الدولية للسلا
...
-
الملك الفرنسي يستنجد بالسلطان العثماني سليمان القانوني فما ا
...
-
بين الذاكرة والإرث.. إبداعات عربية في مهرجان الإسكندرية السي
...
-
شاهد: معرض الرياض الدولي للكتاب 2024
-
السفير الإيراني في دمشق: ثقافة سيد نصرالله هي ثقافة الجهاد و
...
-
الجزائر.. قضية الفنانة جميلة وسلاح -المادة 87 مكرر-
-
بمشاركة قطرية.. افتتاح منتدى BRICS+ Fashion Summit الدولي لل
...
-
معرض الرياض للكتاب يناقش إشكالات المؤلفين وهمومهم
-
الرئيس الايراني: نأمل ان نشهد تعزيز العلاقات الثقافية والسيا
...
-
-الآداب المرتحلة- في الرباط بمشاركة 40 كاتبا من 16 دولة
المزيد.....
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
-
ظروف استثنائية
/ عبد الباقي يوسف
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل
...
/ رانيا سحنون - بسمة زريق
المزيد.....
|