|
الويل لثقافةٍ تقودها شخصياتٌ بوفارية
نوفل شاكر
الحوار المتمدن-العدد: 6678 - 2020 / 9 / 16 - 09:50
المحور:
الادب والفن
يقول كاتب عراقي: " الشخصية البوفارية بحسب جول دوغوتيه هي نتاج خلل في الشخصية يدفع صاحبها الى تصور نفسه شخص اخر لا يمت بصله لذاته الحقيقية.. وسبب هذا التصور هو حماسة واعجاب بتلك الشخصية المتخيلة مما يدفع الشخص الى تقليدها تقليد سطحي في الملبس والخطاب والحركات.. مما ينتج شخص قرقوزي.. سطحي.. شخص يمتلك تصورا خاطئا عن ملكاته الحسية وامكانياته الفكرية.. وسبب شيوع الشخصية البوفارية هو انتشار التعليم على نطاق واسع.. وسيادة نظام تعليمي يقدم الكمي على النوعي.. مما ادى الى ان الافكار الفلسفية والادبية والعلمية تصبح مبذولة امام اشخاص لايمتلكون الادوات الذهنية الكافية لهضمها واستيعابها.. والنتيجة هو وهم الفهم.. مما يخلق ظاهرة انصاف المتعلمين.. ما هو تراكم اجيال من النخب الفكرية يصبح مبذولا امام اشخاص يمتلكون ذهنيات محدودة.. وهذه الفجوة بين تعقيد الفكر وسطحية التلقي تخلق شخصيات منتفخة بوهم الفهم.. شخصيات تستهلك فكرة الواقع قبل تجربة الواقع.. تستهلك فكرة الحب قبل تجربة الحب (مدام بوفاري انموذجا).. وعدم قدرتها على تمييز الفكرة عن الواقع يدفعها الى علاقة مَرَضيّة وصِدامية مع الواقع.. وبالتالي علاقة عنيفة مع المجتمع."
لو أسقطنا التعريف أعلاه على الواقع الثقافي العراقي السائد الآن، لانطبق على أسماء كثيرة تملأ الساحة الثقافية بالضجيج والصخب... شخصيات مُصابة بوهم المعرفة. "شعراء" يرصفون كلمات متقاطعة متخيلينها قصائد نثر. "روائيون" يسطّرون حكايات تفتقر إلى المبنى الحكائي، فضلاً عن افتقارها للبناء الفكري. "مفكرون" يرددون مقولات جاهزة تنفجر بوجهك كقنابل دخانية مجهولة المصدر... محللون سياسيون تعلموا الجيوبولتيك من برنامج " حصاد الشرقية".
مثقفو جملة صنعتهم منصات التواصل الاجتماعي، وأباحت لهم الهجوم على رموز ثقافية كبيرة كعلي الوردي، و الجواهري، والسياب، والتكرلي، و غائب طعمة فرمان، ومظفر النواب... والذريعة هي دوماً " حرية التعبير"! ليس هناك مقدس في الثقافة العراقية! فلتسقط الثوابت والمجد للتحولات.
خطابٌ خطير يخفي تحته إشارات تدل على مشروع منظم وموّجه ومؤطر لهدم بنية الثقافة العراقية، ومسخ هويتها، عبر احتقار رموزها، وتسقيطهم معنوياً... الاغتيال الرمزي هو السلاح الأفتك في هذه المعركة، و منصات التواصل الاجتماعي هي الميدان.
يوماً ما اشتكى الأديب الإيطالي الشهير إمبرتو إيكو من هذه الظاهرة قائلاً بأنها «تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء».
غزو الحمقى والبلهاء هذا هو المهيمن الآن في الساحة الثقافية. شخصيات معروفة بابتذالها الأدبي، وخوائها المعرفي هي من تصنع الخطاب في عراق اليوم. صفحات " الخوة النظيفة" و " شبكة شكو ماكو" هي من ترسم الهوية الثقافية وتؤطرها، وتنظّر للوطنية وتصنع الرأي العام في العراق. والويل لمن يقول خلاف ذلك!
الكوميديا السوداء في الساحة العراقية مهزلة فكرية:
مثقف عراقي يدعو لإسقاط مقولة " العراق مهد الحضارات" لأنَّ العراق اليوم يستورد الطماطة من إيران!
عواطف الأفلام الهندية لمثقفي الوطن، الداعية إلى إفراغ العراق من رموزه الثقافية، وتجريده من هويته، بحجة الدفاع عن الوطن تذكرني بمقولة اندريه جيد: " العواطف الجميلة تنتج أدب سيء".
هذه العواطف أنتجت لنا نمطاً من الحكواتيين والردّاحة ، تضخمّت لديهم الذات؛ بفضل جمهور الحمقى الذي صنعته منصات التواصل، فأصبحوا يطلقون على أنفسهم صفات كبيرة. " أدباء" و " شعراء" تجد حتى في صمتهم أخطاء إملائية ولغوية! كتّاب كلايش جاهزة أشبه بكتّاب عرايض يجلسون في باب دوائر تسويق الثقافة، ومعاهد تصنيع الأنتلجنسيا الجديدة.
من حق هؤلاء جميعاً أن يشخبطوا كما يشاؤون، ولكن ليس من حقهم أن يستهتروا بهويتنا الثقافية. آه لو كانت للكلمات محاكم!
عندما كانت الصين القديمة مسرحاً للفوضى . سأل أحد التلاميذ الحكيم الصيني كونفوشيوس :" لو طُلب منك ان تتولى ادارة شؤون البلاد فما هو اول شيء ستقوم به؟". فرد عليه كونفوشيوس: "ساقوم بتصحيح المُسَمَّيات". وهي اجابة اثارت استغراب تلميذه الذي سأله باستخفاف: "وماذا سيفيدنا تصحيح المُسَمَّيات".. فرد عليه كونفوشيوس" اذا لم يتم تصحيح المُسَمَّيات فان الكلمات لن تتطابق مع الواقع واذا لم تتطابق الكلمات مع الواقع فان كل جهودنا ومشاريعنا تصبح عبث ....". بتعبير اخر، كونفوشيوس يرى بأن الفوضى السياسية هي بالاصل فوضى فكرية حيث المُسَمَّيات تخون الواقع. من هنا فالعلاج يبدأ باصلاح المُسَمَّيات.انه المبدأ الاول لعلم الطب الحديث: التشخيص الدقيق. وهو بالضبط ما نحتاجه في قضية أزمة الثقافة العراقية اليوم. الثقافة العراقية بحاجة إلى تصحيح مسمياتها، ليس كل من يمتلك رصيداً من المتابعين الذين يعلقون له بعبارة " أحسنت النشر" يستحق أن يُطلق عليه شاعر، وليس كل من يكتب خواطر وحوارات تسجيلية وحكايات أطفال يُطلق عليه روائي، وليس كل من يقرأ كتاب " من الذي حرك قطعة الجبن الخاصة بي" يصبح مثقفاً.
الشخصية البوفارية المهيمنة على الثقافة العراقية اليوم، جعلت المثقفين يفتحون مظلاتهم كلما أمطرت في واشنطن. وجعلت مدوناً تافهاً يكتب في التأريخ الآشوري، ويصنع العقل الجمعي لآلاف المراهقين. وجعلت اللغة التي يكتب بها المثقفون لغةً " كوزميتيكية" _ بحسب رولان بارت_ لغة تزويقية، مفردات فارغة من المعنى. تخريج صوتي صرف. ضجة لغوية تحاول تعمية وإخفاء واقع قبيح. جمناستك لغوي غير متقن، يؤدي بصاحبه إلى بضع چقلمبات ليسقط في النهاية على المؤخرة.
إقرأ هذا النص وحاول أن تجد فكرة خلف الكلمات:
" (....) * سقطت جمرةُ السيجارةِ بين الفِراش وبين الغطاء. قلتُ: ستُحدِثُ ثقباً صغيراً مثل عين الميّت الفارغة أو ناراً بسيطةً أخمدُها بصفعةٍ سريعةٍ.. ما عرفتُ أين الجمرةُ وما لسعتْ اصبعي وأنا أبحثُ بين القماشِ والنعاس.. ما شممتُ رائحةَ احتراق وحتى حين تعبتُ وعدتُ كما كنتُ بنومةِ وضعِ الجنين ما لسعت جنبي.. وما نمتُ ولا ينامُ مَن ضاعت جمرةُ سيجارتِهِ وظلّتْ تتوهّجُ في ذهنه."
كلمات مرصوفة خالية من الفكرة، اللهم إلا إذا حسبت بأن الجمرة التي سقطت من السيجارة، وبحث عنها الشاعر ولم يجدها لكونها " ظلت تتوهج في ذهنه"فكرة ثورية!
أين هذا الهذر من قول السياب:
" ورأيت من خلل الدخان, مشاهد الغد كالظلال تلك المناديل الحيارى.. وهي تومئ بالوداع أو تشرب الدمع الثقيل.. وما تزال تطفو وترسب في خيالي هوم العطر المضاع فيها وخضبها الدم الجاري لون الدجى وتوقد النار".
قوانين الفيزياء الثقافية تقول بأن لكل فعل سياسي، أو اجتماعي، هناك رد فعل ثقافي، فالنص المقتبس من قصيدة السياب " في السوق القديم" يتحدث عن فكرة معينة، فكرة الثورة التي عبر عنها ب " توقد النار" والظلم المتمثل بالليل ( الدجى) الثورة التي توقدها دماء الشهداء" الدم الجاري". وعند دراسة حياة السياب وظروف كتابة القصيدة، نجد بأنها كتبت في العهد الملكي، عندما كان السياب شيوعياً مبعداً إلى مدينة الرمادي، وهكذا هو الحال مع الجواهري، والنواب وغيرهم. إرجع إلى نص صاحبنا الشاعر الذي يبحث عن جمرته " بين الفراش" ماذا تجد؟ سيجارة سقطت منها جمرتها بحث عنها صاحبها ولم يجدها. خواء في خواء... نص مكتوب ليغلف به الشاعر شخصيته ويقدمها للجمهور على أنها شيءٌ غامض وكبير، متوارياً خلف قفصٍ من اللغة، منطق الختيلة هذا هو ما يميز الشخصيات البوفارية التي تتزعم المشهد الثقافي والإعلامي اليوم.
#نوفل_شاكر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لن ننسى... كيلا يتناسل الشر!
-
القرن الأميركي لن يكون أميركياً
المزيد.....
-
أحداث تشويقية لا تفوتك.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 167 مترجمة
...
-
الممثل الخاص لوزير الخارجية يلتقي مع المسؤولين الإعلاميين ف
...
-
صور أم لوحات فنية؟ ما السر وراء أعمال هذا الفنان؟
-
الإعلان الثاني لا يفوتك.. مسلسل صلاح الدين الأيوبي الموسم 2
...
-
فرحي الأطفال بمغامرات توم وجيري..حدث تردد قناة نتورك CN لمشا
...
-
ترجمة خاطئة وفيديو قديم.. حقيقة تصريح نتانياهو بأن -مطارات ا
...
-
الناشط علاء عبد الفتاح يفوز بجائزة -بن بنتر- الأدبية رغم سجن
...
-
ثبتها الــــآن .. تردد قناة ناشونال جيوجرفيك لأعظم الأفلام ا
...
-
الفائزة بنوبل للآداب هان كانغ: لن أحتفل والناس يقتلون كل يوم
...
-
علاء عبد الفتاح: الناشط المصري يتقاسم جائزة -بن بنتر- الأدبي
...
المزيد.....
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
-
والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
المزيد.....
|