|
رواية للفتيان مرجانه طلال حسن
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 7884 - 2024 / 2 / 11 - 10:25
المحور:
الادب والفن
رواية للفتيان
مرجانه
طلال حسن
" 1 " ــــــــــــــــــــــــ
نادته جدته من الفناء : فلاح . وقبل أن يصله نداء جدته ، سمع كلبه " البرق " ، الذي تعود أن ينبح كل صباح ، في مثل هذا الوقت ، وكأنه يريد إيقاظه . واعتدل فلاح ، حين سمع جدته تتابع نداءها قائلة : انهض ، حان وقت الكتّاب . ومضت الجدة إلى غرفتها ، بخطواتها البطيئة الواهنة ، وهي تصيح : ليتك تسرع ، الطعام جاهز . ونهض فلاح ، وأخذ يرتدي ملابسه ، بعد أن اغتسل ،و " البرق " يحوم حوله حيثما سار . إنه يحب " البرق " هذا ، ويكاد لا يفارقه ، إلا عند النوم ، أو الذهاب إلى الكتّاب ، منذ أن جاءه به أبوه عبد الرحمن ، في رحلته الأخيرة ، من إحدى الجزر البعيدة. وما إن انتهى من ارتداء ملابسه ، وإعداد لوازمه المدرسية ، حتى أسرع إلى غرفة جدته ، وأسرع " البرق " في إثره . وجلس قبالة جدته ، منهمكاً في تناول طعام الفطور ، لكنه لم ينس " البرق " وراح يلقي له لقمة بين فترة وأخرى ، فينقض عليها " البرق " ويزدردها في الحال . ورفعت جدته عينيها إليه ، وقالت : بنيّ فلاح وخمن فلاح من نبرتها ، ما تريد الحديث فيه ، فقال بشيء من الصبر : نعم ، جدتي . ورغم نبرته غير المشجعة ، تابعت الجدة قائلة : منذ فترة وأنت لا تسألني عن أبيك . وتوقف فلاح عن تناول الطعام وقال : لا فائدة يا جدتي ، إنني لا أراه إلا بين رحلة ورحلة . وصمت لحظة ، ثم أضاف قائلاً : أنت لم تلقبيه بالسندباد عبثاً . ولعلها أحست بمرارة كلماته ، فقالت مدافعة : لك أن تفخر بأبيك، فالجميع هنا في البصرة ، يرون أنه تاجر لامع ، ورحالة عظيم . ونهض فلاح ، وأخذ لوازمه المدرسية ، متأهباً للخروج، ونظر إلى جدته ، وقال : إنني بحاجة إلى أب ، وليس إلى رحالة عظيم. ونهضت الجدة بدورها ، وقالت : فلاح ، اسمعني ، لقد بلغني أن أباك قد يأتي اليوم . وتوقف فلاح لحظة ، دون أن ينبس بكلمة ، ثم مضى خارجاً ، و " البرق " يركض في إثره ، حتى أوصله الباب . وهزت الجدة رأسها ، وتمتمت بأسى : إنني لا ألومك يا فلاح ، فأنا أيضاً لا أحتاج إلى رحالة بل إلى ولد ، أراه ويراني كلّ يوم.
" 2 " ــــــــــــــــــــ انتحى فلاح ، على عادته كل يوم ، بصديقه أحمد ، وعدد من أصدقائهما ، في طرف من فناء الكتّاب ، للتداول في شأن تدريباتهم المستمرة على السباحة والرماية والمصارعة وركوب الخيل . وفوجىء فلاح بأحمد يرمقه بنظرة خاطفة ، ويقول : أقترح أن نرجىء تدريباتنا إلى يوم غد . فاحتج فلاح قائلاً : لم نتدرب منذ أيام ، وأرى أن اليوم مناسب للتدرب على المصارعة . وتطلع أحمد إليه ، وقال : يفترض أن تقترح أنت تأجيل التدريبات هذا اليوم ،يا فلاح . والتفت إلى بقية الأصدقاء ، وأضاف قائلاً : ستصل سفينة تجارية اليوم ، وقد يكون أبو فلاح وصديقه حسام على متنها . ومن أحد الأركان ، لوح لهم رجل معمم ، ثم أشار لهم أن تعالوا، فأسرع أحمد نحوه قائلاً : هلموا ، معلمنا ينادينا ، بدأ الدرس . وطوال فترة الدوام ، انشغل فلاح بالدراسة ، ومراجعة الدروس، والتداول مع المعلم والطلاب في شتى المواضيع العلمية والدينية واللغوية . وعند انصرافه من الكتّاب ، بعد انتهاء الدوام ، استوقفه المعلم ، وقال له : سمعت أن أباك قد يصل اليوم . لم يحر فلاح جواباً ، فتابع المعلم قائلاً : لقد درسنا في الكتّاب معاً ، أنا وأبوك ، وكان دائم الحديث عن البحار ، والجزر الغريبة ، والمدن البعيدة الخلابة . وصمت لحظة ، ثم قال مبتسماً : لقد سحرني بأحلامه ، وكدت أسافر معه ذات مرة ، على متن سفينة شراعية صغيرة ، لو لم يتدخل أبي في اللحظة الأخيرة ، ويحول بيني وبين السفر . ومضى المعلم مبتعداً ، وهو يقول : بلغه تحياتي إذا جاء، وقل له إنني مشتاق إلى سماع أحلامه ، وأني سأزوره في أقرب فرصة . وسار فلاح متجهاً إلى البيت ، وهو يقلب حديث المعلم ، عن أبيه عبد الرحمن . وفي مدخل الزقاق ، الذي يقع فيه بيتهم ، اعترضه صبي من الجيران ، وهتف به فرحاً : أبشر يا فلاح .. وتباطأ فلاح محدقاً فيه ، فتابع الصبي قائلاً : وصل أبوك قبل قليل . ووقف الصبي مذهولاً ، عندما واصل فلاح سيره نحو البيت ، دون أن ينبس بكلمة .
" 3 " ـــــــــــــــــــــــــ دفع فلاح الباب ، ودخل إلى الفناء ، محتضناً كتبه . ورأته الجدة ، وكانت واقفة عند باب المطبخ ، والمغرفة في يدها ، فتقدمت قليلاً ، وهي تصيح فرحة : سندباد . وتوقف فلاح ، حين جاءه صوت أبيه ، ينساب من الغرفة مرحاً : أمي ، قلت لكٍ مراراً ، اسمي ليس سندباد، وإنما عبد الرحمن. واستطردت الجدة قائلة ، دون أن تلتفت إلى تعليقه : جاء شبلك .. فلاح . وصاح عبد الرحمن : فلاح ! وسرعان ما أقبل من غرفته ، التي تبقى مغلقة ، طوال غيابه عن البيت . وتوقف حين وقعت عيناه على فلاح ، ثم مدّ يديه نحوه ، وقال : تعال يا شبلي ، تعال ، آه كم كبرت خلال هذه المدة . وتقدم فلاح ، فأخذه عبد الرحمن بين يديه ، وضمه إلى صدره ، وقال ضاحكاً : يبدو أنك ستفعل ما لم أفعله ، وتكمل تعليمك في الكتّاب . وتملص فلاح من بين ذراعي أبيه ، وقال : معلمنا يسلم عليك . وقهقه عبد الرحمن ، وقال : فأر لكتب ؟ آه ما أطيبه . وسوى فلاح ملابسه ، ووضع كتبه جانباً ، ثم قال : سيزورك قريباً . ورفع عبد الرحمن يديه مرحباً ، وقال : أهلاً به ، إنني لم أره منذ فترة طويلة . ورمق فلاح جدته بنظرة خاطفة ، وقال :إنه ، كما قال لي ، مشتاق لسماع أحلامك . ولاذ عبد الرحمن بالصمت لحظة ، ثم قال : الإنسان لا يكون إنساناً إلا بالأحلام . ولعل الجدة شعرت بحراجة الموقف ، فلوحت بالمغرفة ، وقالت : لنرجىء الحديث الآن ، حان وقت الغداء . وهمت أن تدخل المطبخ ، حين خاطبها عبد الرحمن قائلاً : مهلاً يا أمي . وتوقفت الجدة ، وقالت : فلاح جائع ، وهو متشوق لتناول الغداء معك . ورد عبد الرحمن : أنت تنسين أن لدينا ضيفين اليوم . وضربت الجدة جبهتها بالمغرفة ، وقالت : آه ، لقد شخت حقاً . ومال عبد الرحمن على فلاح ، وقال : سيتغدى معنا اليوم عمك حسام وابنته مرجانه . وفغر فلاح فاه متمتماً : مرجانه ! فابتسم عبد الرحمن ، وقال : نعم يا شبلي ، مرجانه ، وأية مرجانه . وابتسمت الجدة قائلة : ويرزقكم بمرجانه من حيث لا تعلمون .
" 4 " ـــــــــــــــــــــــــ طرق الباب طرقات قوية مرحة ، فهتف عبد الرحمن : إنه حسام ، أعرف قبضته الحديدية . والتفت إلى فلاح ، وقال : انهض يا بنيّ ،وافتح له ، وإلا حطم الباب. ونهض فلاح ، وأسرع نحو الباب ، فقالت الجدة ضاحكة : لابد أنه جائع ، وشمّ رائحة الطعام البصري . وضحك عبد الرحمن ، وقال : لو تعرفين كم يحب طعامك ، وخاصة عندما يكون في البحر . فردت الجدة قائلة : ليترك البحر ، ويتزوج بصرية ، وستطبخ له أفضل مما أطبخ . وفتح فلاح الباب ، وإذا حسام يندفع إليه بجسمه الضخم ، الذي ازداد ضخامة ، ويرفعه بين يديه قائلاً ببحة مرحة : السلام على عالمنا الصغير ، ها نحن قد عدنا مؤقتاً ، وسنقلع مع الريح نحو الجزر البعيدة ، بعد أن نشبع من طعام جدتك . ونهض عبد الرحمن ، وقال : لا تصدقه يا بنيّ ، لن أقلع أنا مرة أخرى . وأنزل حسام فلاح ، ولوح بقبضته قائلاً : كلا ، أنا صادق ، لا أحد في العالم يعرفك مثلي ، أنت سندباد ، وستبقى سندباد . ثم مال على فلاح ، وقال : دعنا من سندباد الآن ، تعال أعرفك بمرجانه . وتنحى قليلاً ، فبدت وراءه فتاة ، ربما أصغر من فلاح بسنة أو سنتين ، سمراء ، سوداء العينين ، شعرها فاحم، مسترسل على كتفيها ، رمقت فلاح بنظرة حيية ، ثم أغضت . ودفعها حسام برفق ، وقال : هذا فلاح ، الذي طالما حدثتك عنه . وغض فلاح من نظره ، وتمتم قائلاً : مرحباً . فردت مرجانه بصوت خافت : مرحباً . وتقدمت الجدة من مرجانه ، ومدت يديها نحوها وعانقتها، ثم قالت ، وهي تتملاها : حقاً ، أنت مرجانه . وأطرقت مرجانه مبتسمة ، وقد توردت وجنتاها . ونظرت الجدة إلى حسام ، وقالت : أنت محظوظ ، أين عثرت عليها ؟ وقهقه عبد الرحمن ، وقال : لم يعثر عليها ، وإنما سرقها من سفينة شراعية صغيرة . ورفع حسام قبضته ، وقال : دعك منه ، هذه المرجانه ، انتزعتها من مخالب القرصان الأعور ، وأنقذتها منه . وقالت الجدة ، وهي تتأمل مرجانه : حافظ عليها يا حسام، إنها أمانة . واحتضن حسام مرجانه ، وقال بحرارة : ماذا تقولين؟ مرجانه ابنتي . وقالت الجدة : وابنتي أيضاً . والتفت حسام نحو المطبخ ، وتشمم رائحة الطعام ملء صدره ، وصاح مبتسماً: الله ، طعام خالتي العظيمة ، أم سندباد. واحتج عبد الرحمن قائلاً : حسام . واستدارت الجدة نحو المطبخ مقهقهة ، والمغرفة في يدها ، وقالت : أنا أم عبد الرحمن .
" 5 " ـــــــــــــــــــــــ جلس عبد الرحمن إلى جانب الجدة ، بعد أن انصرف حسام ومرجانه ، إلى بيتهما . وحدق في فلاح ، الذي كان يتشاغل بتصفح احد الكتب ، ثم خاطبه قائلاً : بنيّ ، تعال أجلس إلى جانبي . وأغلق فلاح كتابه ، ووضعه جانباً ، ثم نهض ، وجلس إلى جانب أبيه ، دون أن ينبس بكلمة .ومدّ عبد الرحمن يده ، وراح يداعب فلاح ، ويمسد شعره ، ثم قال : بنيّ ، لقد تغيرت كثيراً ، منذ أن رأينك آخر مرة . وابتعد فلاح عنه قليلاً ، وقال : لقد رأيتني آخر مرة قبل أكثر من سنتين . ولعل عبد الرحمن شعر بمرارة كلماته ، فقال بنبرة مراضاة : لا عليك ، سأراك منذ اليوم بصورة دائمة . ورد فلاح قائلاً : للأسف ، هذا ما أسمعه منك دائماً يا أبي . ورمقت الجدة عبد الرحمن بنظرة خاطفة ، كأنما تضم صوتها إلى صوت فلاح . وأطرق عبد الرحمن رأسه ، وقال : سفري المستمر ربما كان هروباً ، أو محاولة للعلاج والنسيان ، بعد أن توفيت أمك ، وهي تضعك . وصمت لحظة ، ثم رفع عينيه إلى فلاح ، وقال : لكني هذه المرة قررت أن لا أسافر مرة أخرى ، لقد تعبت ، وآن لي أن أركن إلى الراحة . واستبد الفرح بالجدة ، وقالت بنبرة مازحة : أرجو أن يقتدي حسام بك ، ويطلق بالثلاثة عالم البحار . وقهقه عبد الرحمن ، وقال : حسام هذا قرش ، يموت إذا ابتعد عن المياه والحركة . وصمت لحظة ، وقد كف عن القهقهة ، ثم قال : من يدري ، قد يركن إلى الراحة حباً بابنته مرجانه . ومالت الجدة عليه مبتسمة ، وقالت : كم أتمنى أن تكون لك ابنة مثل .. مرجانه . ونظر عبد الرحمن إلى ابنه ، وقال : لا تنسي يا أمي ، إن لي شبلي .. فلاح . ورمقت الجدة فلاح بنظرة خاطفة ، ثم قالت : من يدري، لعل فلاح يريد أختاً تشبه مرجانه . ونهض عبد الرحمن متثائباً ، واتجه إلى غرفته ، وهو يقول : لقد شخت يا أمي ، ولن ترضى بي فتاة ، يمكن أن تأتيني بابنة مثل .. مرجانه .
" 6 " ــــــــــــــــــــــــ استلقى فلاح في سريره ، محكماً حوله الغطاء ، وأغمض عينيه لينام ، ويستيقظ مبكراً ، استعداداً للذهاب إلى الكتاب، وعلى غير عادته ، لم ينم ، فقد كانت مرجانه ، تبعد عنه النوم ، بعينيها السوداوين ، وشعرها الفاحم المسترسل ، وسمرتها القريبة من سمرة البصريات . ومما زاد في إبعاد النوم عنه ، تفكيره فيها ، وتأثره لوضعها . صحيح أن حسام يحبها ويرعاها ، كما لو كانت ابنته ، إلا أنها كانت بعيدة عن أمها وأهلها وبلدها . ولام حسام ، بينه وبين نفسه ، فقد كان عليه أن لا يكتفي بانتزاعها من القرصان الأعور ، وإنما أن يبحث عن أمها ، ويعيدها إليها . وأغفى فلاح ، قبيل الفجر ، لكن مرجانه لم تغب عنه ، فقد رافقته في أحلامه ، وتراءت له ، أكثر من مرة ، ترمقه بنظرة سريعة ، وتتمتم بصوتها العذب : مرحباً . وفي الصباح ، وعلى غير العادة ، هزته جدته قائلة : فلاح ، ماذا جرى ؟ البرق ينبح عبثاً منذ فترة . وهب فلاح من سريره ، ونباح البرق يأتيه من الفناء ، وقال لجدته : حقاً ، ماذا جرى ؟ ليتك أيقظتني مبكراً . ومضت الجدة إلى خارج الغرفة ، وهي تقول : الذنب ليس ذنبي، لقد انشغلت بوالدك . وعلى عجل ، أخذ فلاح يرتدي ملابسه ، وجاءه صوت جدته من الفناء : تعال إلى غرفتي ، الفطور جاهز . وحمل فلاح كتبه ، وأسرع إلى غرفة جدته ، يتبعه " البرق " ، وهو ينبح ، ويبصبص بذنبه . وجلس قبالة جدته ، يزدرد طعامه إزدراداً ، دون أن يلتفت إلى " البرق " ، أو يرمي له لقمة واحدة. وتطلعت إليه جدته ، ثم قالت : لم تسألني عن أبيك . فرد فلاح ، وهو يدفع لقمة في فمه : لابد أنه أيقظك مبكراً وتناول فطوره مع صياح الديك . وابتسمت الجدة ، وقالت : وخرج بصحبة عمك حسام . وكف فلاح عن تناول الطعام ، ورفع عينيه إلى الجدة ، التي استطردت قائلة : ذهبا معاً إلى الشاطىء ، لمعاينة بضاعتهما في السفينة . ونهض فلاح ، وقال بشيء من الانفعال : أرأيت ؟ البارحة قال إنه لن يسافر مرة أخرى ، لا فائدة . وحمل كتبه ، ومضى إلى الخارج بخطوات واسعة غاضبة ، وسرعان ما سمعت الجدة الباب يصفق بقوة ، فقالت : مهما يكن، فإنني أصدق السندباد هذه المرة .
" 7 " ــــــــــــــــــــــــــ
وصل عبد الرحمن وحسام إلى الشاطىء ، حيث رست عدة سفن شراعية ، وقوارب صغيرة لصيد السمك.ولاحت سفينتهم ، في غبش الصباح ، عتيقة ، متداعية ، تختض مع حركة الأمواج ، في شط العرب . وتوقف عبد الرحمن ، وقال : يخيل لي يا حسام ، أن قلقك مبالغ فيه . وتوقف حسام بدوره ، وقال : البحار فاضل لا يكذب . وهز عبد الرحمن رأسه ، وقال : نعم ، في النهار ، عندما يكون صاحياً . وهمّ حسام أن يرد عليه ، فاستطرد عبد الرحمن قائلاً : ثم أنت تعرف فاضل جيداً ، إنه يكره القرصان الأعور . وسار حسام صوب السفينة ، وقال : هذا اللعين ، لن ينسى أنني انتزعت منه مرجانه . ولحق عبد الرحمن به ، وقال : ولن ينسى أيضاً أنك فقأت إحدى عينيه . وصمت لحظة ، ثم قال : لعله مفلس الآن ، أسكته ببضعة دنانير. واقترب حسام من سلم السفينة ، وقال : بل سأفقأ عينه الأخرى . وقال عبد الرحمن : حسام ، كن منصفاً ، مرجانه عندك أنت . والتفت حسام إليه ، وقال : إنه مجرم ، ولعله قتل أمها . فرد عبد الرحمن : ولعله لم يقتلها . وتسلق حسام السلم ، وهو يقول : المهم الآن مرجانه ، لقد هدد باختطافها ، وسيختطفها إذا لم أوقفه عند حده . وتسلق عبد الرحمن السلم في أثره ، وقال : لا تصدق فاضل ، إن القرصان الأعور يخافك ، كما يخاف عزرائيل . وصعد حسام السلم إلى السفينة ، واتجه نحو القمرة ، وقال : مهما يكن ، لابد أن أتحقق من هذا الأمر . ثم توقف ، وصاح : فاضل . لم يجبه أحد ، فصاح بصوت أعلى : فاضل . وفتح باب القمرة ، وأقبل بحار بدين ، كأنه قربة مليئة بالدهن ، ورمش بعينيه العكرتين ، المثقلتين بالنعاس ، وقال متسائلاً : من؟ من أنتما ؟ فصاح به حسام غاضباً : أنا ، أيها النّوام الأحمق . وتراجع البحار البدين ، وقد تبين حسام وعبد الرحمن ، وقال متأتئاً : عفواً ، لم أتبينكما ، مازالت العتمة .. وقاطعه حسام غاضباً : أين فاضل ؟ اذهب ، وناده في الحال . وتأتأ البحار البدين ، ثم قال بصوت متحشرج : فاضل ! فاضل .. ليس هنا . وقال حسام بانفعال : ماذا تخرف ؟ فاضل لم يبت يوماً خارج السفينة . ومسح البحار البدين عينيه ، وقال : هذا صحيح ، لكنه خرج البارحة ليلاً ، ولم يعد . ورمق حسام عبد الرحمن بنظرة خاطفة قلقة ، ثم قال للبحار البدين : حسن ، سأكون في البيت ، أرسله إليّ حالما يعود . فرد البحار البدين قائلاً : سمعاً وطاعة يا سيدي .
" 8 " ـــــــــــــــــــــــ
عاد فلاح ، بعد انتهاء الدوام في الكتّاب ، إلى البيت. وفوجئ بمرجانه، جالسة وحدها ، في الفناء . وحالما رأته، هبت من مكانها ، وقالت محرجة : الجدة في المطبخ ، تعد الطعام . وصمتت لحظة ، ثم قالت : جاء بي أبي إلى هنا ، قبل قليل ، وعاد ثانية إلى الشاطئ ، مع أبيك . ووضع فلاح كتبه جانباً ، وقال : أهلاً بك ، فرصة طيبة، ابقي وتغدي اليوم معنا . ووقفت مرجانه حائرة ، لا تدري ماذا تفعل ، فقال فلاح : تفضلي ، أجلسي . وقبل أن تجلس مرجانه ، أقبلت الجدة من المطبخ ، والمغرفة في يدها ، وقالت : الطعام جاهز ، لنتغدّ، حسام والسندباد قد يتأخرا . وقفلت عائدة إلى المطبخ ، وهي تشير بالمغرفة لمرجانه: مرجانه ، تعالي ساعديني . ولحقت مرجانه بالجدة مسرعة ، دون أن تتفوه بكلمة ، وأسرع فلاح في إثرهما ، وهو يقول : سأساعدك أنا أيضاً ، يا جدتي . وضحكت الجدة ، وقالت : يا لله ، هذه ليست من عاداتك،يا فلاح . ثم رمقت مرجانه بنظرة خاطفة ، وقالت : سبحان الذي يغير ولا يتغير . ولاذ فلاح بالصمت ، مدارياً خجله ، وتناهى إليه نباح "البرق" فنظر إلى جدته ، وقال : هذا البرق ، عجباً ، لم يأت إليّ ، حين دخلت البيت . فردت الجدة قائلة : ربطته تحت السلم ، إن مرجانه تخاف منه . وابتسمت مرجانه ، وقد تملكها الخجل ، فنظر فلاح إليها، وقال : لا تخافي من البرق ، إنه لا يهاجم إلا من يراه غريباً عدوانياً . واعدوا السفرة في الفناء ، وجلسوا حولها يتناولون طعام الغداء، والبرق ينبح ، كأنما يحتج على ربطه تحت السلم . واختلس فلاح نظرة إلى مرجانه ، ولاحظ أنها تتناول الطعام شاردة ، فقال مازحاً : جدتي ، يبدو أن مرجانه لم يعجبها طعامك . وضحكت الجدة ، وقالت : لا تلمها يا فلاح ، لعلها معتادة على طعام البحارة . وابتسمت مرجانه ، وقالت : إنني طباخة ماهرة بشهادة بابا . وعلقت الجدة قائلة : من يشهد للعروسة ؟ كلي يا بنيتي ، كلي ، كلي . وهنا دفع الباب ، ودخل أبو فلاح وحسام متجهمين ، ونهضت الجدة ، وقالت : حماتكما تحبانكما ، تعالا ، الطعام مازال ساخناً. وجلس أبو فلاح جانباً : لست جائعاً يا أمي ، فليأكل حسام . وجلس حسام إلى جانب أبي فلاح ، وقال : أنا أيضاً لست جائعاً. وألقت مرجانه لقمة الطعام من يدها ، وكفّ فلاح بدوره عن تناول الطعام ، فتساءلت الجدة : ما الآمر ؟ أخبرانا . وأطرق حسام رأسه ، دون أن ينبس بكلمة . ونظر أبو فلاح إلى الجدة ، وقال : البحار فاضل ، وجد قبل قليل .. غريقاً .
" 9 " ـــــــــــــــــــــــ خلال الأيام التالية ، رابط حسام في البيت ، إلى جانب مرجانه ، من غير أن يدعها تغيب عنه لحظة واحدة . وكان إذا أضطر للخروج ، لسبب أو لآخر ، يأخذها لتبقى مع الجدة ، حتى يعود . وطالما فزً من نومه ليلاً ، إثر كابوس مزعج ، فيعتدل متفقداً مرجانه ، ليجدها تغط في نوم عميق ، في سريرها، القريب من سريره . لقد تملكته الوساوس على مرجانه ، منذ أن غرق البحار فاضل، أو أغرق ، في شط العرب . وراح يحرسها ليل نهار ، خشية أن يخطفها القرصان الأعور ، ويهرب بها بعيد ، ويبيعها ، أو يقتلها ، كما قتل أمها . ورغم قلقها ، ارتاحت مرجانه إلى زياراتها المتكررة لبيت الجدة . وكان فلاح يترك كتبه ودراسته ، ويجالسها، ويبادلها الحديث ، كلما صادفها في بيتهم . وكانت الجدة تستغرب من هذين الصموتين ، كيف راحا يوماً بعد يوم ، يستغرقان في أحاديث لا تنتهي . وودت لو تعرف عما يتحدثان، لكنها كانت تحجم عن سؤالها ، خشية أن يحرجا ، ويعودا ثانية إلى الصمت .وراحت تقدم لهما شراباً حلواً مرة ، وفواكه لذيذة مرة أخرى ، وتقول لهما مازحة : تفضلا ، الحديث يفتح الشهية . ويبتسم فلاح ، وتطرق مرجانه ، وقد توردت وجنتاها . وما أن تبتعد الجدة ،حتى يعودا إلى أحاديثهما ، التي تكاد لا تنتهي . حدثها فلاح عن كتّابه ومعلميه وأصدقائه وكتبه ، كما حدثها عن البصرة وأهلها وسوق المربد وشط العرب . بينما حدثته مرجانه عن جزيرتها ، التي تسبح في الخضرة ونور الشمس ، وسط مياه البحر ، كما حدثته عن أمها الطيبة ، والقرصان الأعور ، الذي اختطفها ، وربما تسبب بموت أمها . ولو لم يتدخل حسام ، وينقذها منه ، ربما باعها في سوق العبيد ، أو قتلها ، كما قتل الكثيرين ، وأشادت بحسام ، وحبه الشديد لها ، حتى أنه جعلها بمثابة ابنة له .
" 10 " ـــــــــــــــــــــــــــ قبيل مساء احد الأيام ، ارتدى عبد الرحمن ملابسه ، استعداداً للخروج . ورفع فلاح عينيه عن كتابه، ورمق أباه بنظرة خاطفة ، دون أن ينطق بكلمة . وتطلعت الجدة إليه ، وقالت : الوقت متأخر ، وستغرب الشمس بعد قليل، إلى أين ؟ فرد أبو فلاح قائلاً : سأذهب إلى بيت أبي مرجانه ، وقد أتأخر حتى العشاء . وهب فلاح ، تاركاً الكتاب ، الذي كان يقرأ فيه ، وقال : مهلاً يا أبي ، سآتي معك . ونظر أبو فلاح إلى الجدة ، فقالت مبتسمة : خذه معك ، لابد أنه مشتاق إلى عمه ، أبي مرجانه . واحتج فلاح ، وهو يرتدي ملابسه بسرعة : حتى أنت ِ يا جدتي . وقهقه أبو فلاح قائلاً : لو كنت مكانه لما كنت أقل شوقاً منه إلى مثل هذا العم . وتقدمت الجدة من فلاح ، وراحت تسوي ملابسه ، وهي تقول : لا عليك ، اذهب يا عزيزي ، وفقك الله . وذهب فلاح بصحبة أبيه ، ولم يجتازا من المحلة ، سوى بضعة بيوت ، حتى بلغا بيت أبي مرجانه . واستقبلهما أبو مرجانه مرحباً ، ثم صاح : مرجانه ، تعالي ، عندنا ضيوف ، وأي ضيوف. وأقبلت مرجانه ، ورحبت بحرارة بفلاح وأبيه ، ثم قالت : إنني أطبخ طعاماً مما كانت تطبخه أمي ، أرجوكما ابقيا ، سنتعشى معاً . وقبل أن يقول فلاح أو أبوه كلمة ، قال حسام : بقيا وذوقا ما أذوقه كل ّ يوم . وقهقه أبو فلاح ، وقال : كل وأسكت ، هذا ما جنته يداك يا فلاح . ونظر حسام إلى مرجانه ، وقال : من أجل هاتين العينين أتحمل بهارات الهند كلها . وابتسمت مرجانه قائلة : أشكرك بابا . ثم قفلت عائدة إلى المطبخ ، وهي تقول : عن إذنكم ، وإلا احترق الطعام . وأشار حسام لفلاح وأبيه ، وقال : تفضلا ، تفضلا بالجلوس . وجلس فلاح وأبوه ، وجلس حسام قبالتهما ، وقال مخاطباً عبد الرحمن : أعرف ما جئت من أجله ، يا أبا فلاح ، البضاعة ، نعم، لقد تأخرنا في نقلها إلى بغداد . واعتدل عبد الرحمن في جلسته ، وقال : أنا أتفهم مشاعرك ، ابق أنت هنا ، وسأتكفل أنا بنقل هذه البضاعة. فرد حسام قائلاً : لا ، أنت متعب ، سأرافقك إلى بغداد ، والويل للقرصان الأعور ، إذا مس ّ شعرة من مرجانه . ونظر فلاح إلى حسام ، وقال : لا خوف على مرجانه ، لتبق عندنا حتى تعودا من السفر . ورمق حسام عبد الرحمن بنظرة ارتياح ، ثم تطلع إلى فلاح ، وقال : طبعاً يا فلاح ، ستبقى في بيت عمها وابن عمها وجدتها. وهنا أقبلت مرجانه من المطبخ ، حاملة صينية الطعام ، وهي تقول : دعوا كل شيء جانباً ، وتهيأوا ، جاء طعام مرجانه . وصاح حسام ضاحكاً : هاتوا جرة الماء ، ستبدأ الحرائق.
" 11 " ـــــــــــــــــــــــــــ انتقلت مرجانه إلى بيت الجدة ، بعد أن سافر عبد الرحمن وحسام بالبضاعة إلى بغداد . وبقدر ما كانت مرتاحة للبقاء مع فلاح والجدة ، كانت خائفة وقلقة ، مما تناهى إليها عن القرصان الأعور ، ونواياه الشريرة تجاهها، فهي لم تنس ، ولن تنسى ، ما حاق بها وبأمها بسببه . وأفاقت ذات ليلة ، على نباح " البرق " ، وما إن فتحت عينيها ، حتى رأت الجدة واقفة عند النافذة ، فاعتدلت متسائلة بصوت يشي بقلقها : جدتي ، ما الأمر ؟ والتفتت الجدة إليها ، وقالت تطمئنها : لا شيء يا بنيتي ، عودي إلى فراشك . وارتفع نباح " البرق " ، فهبت مرجانه إلى النافذة ، وأطلت منها على الفناء . وعلى ضوء القمر ، لمحت خيال رجل ضخم ، يمرق على السلم ، و" البرق " ينطلق في أثره ، فتمتمت مرعوبة : لص .. لص . وسكتت لحظة ، ثم التفتت إلى الجدة ، وقد اتسعت عيناها رعباً ، وقالت : لعله القرصان ، نعم ، إنه هو ، القرصان الأعور . وفتح فلاح باب غرفته ، واندفع نحو الفناء ، ثم لحق ب " البرق " إلى السطح ، ومن هناك ، أطل على سطوح الجيران ، وبحث في ضوء القمر ، عما في باله ، دون جدوى . ونزل من السطح إلى الفناء ، و " البرق " يبصبص بذنبه وراءه . وفتحت الجدة باب غرفتها ، وأسرعت إلى فلاح قائلة : بنيّ فلاح ، أنت عاقل ، ما كان لك أن تصعد إلى السطح في هذا الوقت من الليل . فرد فلاح بنبرة مازحة : لا تنسي يا جدتي ، أنني الآن رجل البيت . وأطلت مرجانه من باب الغرفة ، فرفع " البرق " رأسه، ونبح عالياً ، فقالت الجدة : هذا البرق اللعين ، لقد أيقظنا من النوم ، ولعل الأمر لا يعدو أن تكون عدوته اللدود .. القطة السوداء . ورمق فلاح مرجانه بنظرة خاطفة ، وقال : أنت محقة يا جدتي، لعلها كانت القطة السوداء فعلاً . واقترب من مرجانه ، وقال مازحاً : إنها مجرد قطة ، رغم لونها الأسود . ودفعت الجدة مرجانه برفق إلى الداخل ، وقالت : نحن في منتصف الليل ، لنعد إلى النوم . ثم خاطبت فلاح قائلة : اذهب أنت أيضاً إلى فراشك ، ونم . وأضافت ، وهي تغلق الباب : تصبح على خير .
" 12 " ـــــــــــــــــــــــــــ أفاقت الجدة متأخرة ، صباح اليوم التالي ،فقد غطست ، بعد صلاة الفجر ، في غفوة عميقة ، لم تفق منها ،إلا والشمس تطل عليها من نافذة الغرفة .وهبت من سريرها مولولة : يا ويلي ، سيتأخر فلاح عن الكتّاب هذه المرة . وأسرعت إلى فلاح ، وإذا هو مستلق في سريره ، وقد أحكم الفراش حوله ، فقالت مستغربة : فلاح ، ماذا جرى؟ أنظر إلى الشمس . واعتدل فلاح ، وتساءل قائلاً : هل استيقظت مرجانه ؟ وبدل أن ترد الجدة ، قالت : انهض ، ستتأخر عن الكتّاب. ودفع فلاح الفراش عنه ، وقال : لن أذهب اليوم إلى الكتّاب ، سأبقى معكما في البيت . وهمهمت الجدة بنبرة ذات معنى : هممم ، القطة السوداء. ونظر فلاح إليها ، دون أن يتفوه بكلمة ، فتابعت الجدة قائلة : إنني أعرف ، كما تعرف أنت ، أنها لم تكن القطة السوداء . ونهض فلاح من سريره ، وقال : نعم ، أنت محقة ، لكن من يدري ، لعله لص عادي . وردت الجدة قائلة : هذا ما أتمناه . ثم اتجهت إلى الباب ، وهي تقول : سأذهب ، وأوقظ مرجانه ، ثم أعد طعام الفطور . وأعدت الجدة طعام الفطور ، وساعدتها مرجانه في إعداده ، وجلسوا يفطرون صامتين ، و" البرق " يقف بباب الغرفة مبصبصاً بذنبه . ورمقت مرجانه فلاح بنظرة خاطفة ، وهي تضع لقمة في فمها، وقالت : يبدو أنك لن تذهب اليوم إلى الكتّاب . ونظر فلاح إلى جدته ، فابتسمت الجدة وقالت : يخاف عليك من القطة السوداء . وابتسم فلاح ، وقال : مهما يكن ، سأبقى هذا اليوم في البيت . ونظرت مرجانه إليه ، وقالت : لا أريد أن تهمل دروسك بسببي. فنهض فلاح ، وقال : إنني لا أهمل دروسي . واتجه إلى غرفته ، وهو يقول : وها إني أذهب إلى غرفتي ، لأدرس كما لو كنت في الكتّاب .
" 13 " ـــــــــــــــــــــــــ ارتدى فلاح ملابسه ، قبيل العصر ، متأهباً للخروج. ودهشت الجدة ، حين رأته ، وتساءلت قائلة : فلاح ، إلى أين ، يا بنيّ ؟ وأقبلت مرجانه من الغرفة مسرعة ، ونظرت إلى فلاح ، دون أن تتفوه بكلمة ، وقالت الجدة : أرجو أن لا تتأخر. ونبح " البرق " مبصبصاً بذنبه ، ومضى فلاح نحو الباب ، من غير أن يلتفت إليه ، وقال : أغلقا الباب ، ولا تفتحاه لأحد حتى أعود . وخرج فلاح ، فأسرعت الجدة ، وأحكمت إغلاق الباب من الداخل ، وقالت : اطمئني ، سيعود قريباً . ونبح " البرق " ثانية ، فأضافت الجدة مبتسمة : ثم لا داعي للخوف مادام البرق معنا . وأسرع فلاح ، عبر أزقة البصرة ، التي كانت شمس العصر ، توشي بيوتها وقبابها ومناراته بنثار الذهب ، حتى وصل بيت صديقه أحمد . وما إن طرق الباب ، حتى خرج أحمد إليه ، وحدق فيه مندهشاً ، وتمتم : فلاح ! تفضل . ومال فلاح عليه ، وقال بصوت يشي بالخطورة : مهلاً ، جئت لأمر هام . فتساءل أحمد : ما الأمر؟ أقلقتني ، تكلم يا فلاح . ورد فلاح قائلاً : أصارحك يا أحمد ، إنني أخشى أن يكون بيتنا معرضاً الليلة للخطر . وبدت الحيرة والقلق على أحمد ، وقال : مهما يكن ، فنحن معك . ومدّ فلاح يده ، وشد على يد أحمد ، وقال : أشكرك . ثم أضاف : والآن لابد أن نستعد للأمر . فرد أحمد بحماس : نحن إخوتك ، ولعلنا تدربنا لمثل هذا اليوم ، مرنا وسترانا معك . وشد فلاح ثانية على يد أحمد ، وقال : اذهب إلى أصدقائنا ، وبلغهم أن يكونوا مستعدين عند أول إشارة . وقال أحمد بحماس : عد أنت إلى البيت ، وسأذهب فوراً إلى جميع الأصدقاء ، وأبلغهم بالأمر . وتراجع فلاح ، ثم مضى مسرعاً ، وهو يقول : تحياتي للجميع، إلى اللقاء .
" 14 " ـــــــــــــــــــــــــ قفل فلاح عائداً على عجل ، وقد مالت الشمس للغروب . وما إن اقترب من البيت ، حتى فوجئ بالباب موارباً . وخفق قلبه هلعاً ، وأندفع إلى الفناء ، وهو يصيح : جدتي .. جدتي . وجاءه صوت جدته من غرفتها واهناً متحشرجاً : فلاح .. تعال .. أنا هنا . وأسرع فلاح إلى الغرفة ، وإذا الجدة ملقاة على الأرض، وقد تلطخ وجهها بالدماء . فمد يديه نحوها ، يساعدها على النهوض، وهو يقول : جدتي ، ماذا جرى ؟ واعتدلت الجدة قليلاً ، وقالت بصوت باك : يا ويلي ، ماذا سنقول لحسام ، مرجانه يا فلاح . وهب فلاح قائلاً : يا إلهي ، لا تقولي أنها .. . وهزت الجدة رأسها ، وقالت باكية نعم ، إنه هو ، القرصان الأعور . لم يتمالك فلاح نفسه ، فصاح غاضباً : قلت لك ،لا تفتحي الباب لأحد . ونهضت الجدة مترنحة ، وقالت من بين دموعها : لم أفتح الباب يا بني ، لم أفتحه . ونظر فلاح إليها متسائلاً ، فأضافت قائلة : نزل علينا كالباشق من السطح ، واقتحم غرفتي ، وتصديت له ، فلطمني بقبضته على وجهي ، فأغمي عليّ ، و .. . ووقف فلاح حائراً ، والغضب يحتدم في أعماقه ، ثم قال : ما العمل الآن ؟ ما لعمل ؟ وانهارت الجدة باكية ، وقالت : إنه مجرم ، هذا القرصان الأعور ، ولا حول لنا أمامه ولا قوة . وارتفعت ضجة في الخارج ، وانبثق صوت أحمد من خلالها يصيح : فلاح ، فلاح . وأسرع فلاح إلى الخارج ، وإذا أحمد ، ومعه عدد من فريقهم للفروسية والمصارعة ، مسلحين بالهراوات . واقترب أحمد من فلاح ، وقال : فلاح ، أصحيح أن القرصان الأعور .. . فرد فلاح قائلاً : نعم يا أحمد ، لقد اختطف مرجانه في غيابي . ومدّ أحمد يده ، وشد على يد فلاح ، ثم قال : نحن معك ، لنطارده ، ونلقِ القبض عليه ، حيثما يكون . ونظر فلاح إليه حائراً ، وقال : وأين هو لنطارده ؟ لا أحد يعرف مكانه ، وكل ما أخشاه ، أن يكون قد هرب بمرجانه خارج البصرة . وهنا جاءهم نباح " البرق " واهنا من أول الزقاق ، فصاح فلاح : إنه البرق . وأسرع إليه ، ومن ورائه أحمد والأصدقاء ، وتلقفه بين ذراعيه، وحدق فيه قائلاً : يا للمسكين ، إنه جريح ، فلنأخذه إلى البيت .
" 15 " ــــــــــــــــــــــ تحلقوا حول " البرق " في الفناء ، وانكبوا عليه ، يمسدون رأسه، وينظفون فراءه مما علق به من تراب وعرق ودماء . وأسرع أحمد ، وجاءه بإناء ملأه بالماء ، ووضعه أمامه ، وقال : اشرب يا برق ، اشرب ، اشرب. وطوال هذه المدة ، كان " البرق " يحاول التملص منهم، نابحاً بانفعال ، ونظرت الجدة إليه ، وخاطبت فلاح قائلة : فلاح ، لعل البرق لحق بالقرصان حتى مخبأه ، فقد رأيته يطارده نابحاً ، وهو يحاول أن يعضه . فرد فلاح قائلاً : من يدري ، لعلك على حق . وأخذت الجدة تبعد بعض أصدقاء فلاح عن " البرق " ، وهي تقول : ابتعدوا عنه قليلاً وسنرى . وما إن وجد " البرق " ثغرة في الطوق ، الذي كان مضروباً حوله ، حتى تراجع قليلاً ، ثم انطلق مسرعاً نحو الباب ، فقالت الجدة : أنظروا ، كأنه يدعوكم لأن تتبعونه . وخرج " البرق " من البيت ، فأسرع فلاح وأحمد وأصدقاؤهما في أثره . وأخذ يركض مسرعاً من زقاق إلى زقاق ، والجميع يركضون وراءه ، حتى انتهى إلى بيت عتيق ، آيل للسقوط ، يطل على شط العرب ، ووقف عند بابه ، وراح ينبح . وتوقف فلاح قرب " البرق " ، وتوقف خلفه أحمد وأصدقاؤهما، ونظر إلى البيت ، وقال : هذا هو البيت ، إن البرق لا يخطىء ، لابد أن القرصان الأعور يحتجز فيه مرجانه . وتقدم أحمد من باب البيت ، وقال : لنطرق الباب ونر . وطرق الباب مرة ومرات ، لكن أحداً لم يرد عليه.واندفع " البرق " نابحاً ، وأخذ يضرب الباب بقائمتيه الأماميتين، وقال فلاح : مرجانه في الداخل لنحطم الباب. وانقضوا معاً على الباب ، ودفعوه بكل قواهم ، حتى تداعى وانفتح ، منصفقاً بصوت مرتفع . وما إن اندفعوا إلى الداخل ، حتى فوجئوا بالقرصان الأعور ، يقف متحدياً وسط الفناء ، وهراوته في يده ، وصاح بهم غاضباً : أخرجوا وإلا قتلتكم . وتوقفوا للحظة مترددين ، وقال فلاح : لن نخرج حتى تطلق مرجانه . فرد القرصان الأعور . مرجانه ليست هنا . وتقدم فلاح قليلاً ، وقال : أنت اختطفتها ، أطلقها وإلا ندمت . واندفع القرصان الأعور نحو فلاح وأصدقائه ، ملوحاً بهراوته، وهو يصيح : قلت لك مرجانه ليست .. وتوقف مغتاظاً ، حين ارتفع صوت مرجانه من إحدى الغرف ، تصيح بأعلى صوتها : فلاح ، أنا هنا ، أنقذني ..أنقذني . وهنا انتفض " البرق " على القرصان الأعور ، وغرز أنيابه الحادة في ساقه . وصرخ القرصان الأعور متألماً، ورفع هراوته ، ليضرب " البرق " فأندفع فلاح وأحمد وأصدقاؤهما نحوه ، وانهالوا عليه بهراواتهم . حتى أسقطوه على الأرض ، والدماء والكدمات تغطي وجهه . وأسرع فلاح إلى الغرفة ، التي تحتجز فيها مرجانه ، فحل وثاق مرجانه ، وخرج بها إلى الفناء ، وهتف بأصدقائه : كفى أيها الأصدقاء ، لقد نال هذا اللعين جزاءه ، فلنعد الآن بمرجانه . وغادر الجميع البيت ، تاركين القرصان الأعور ، يتلوى متوجعاً على الأرض ، وساروا متجهين إلى البيت ، يتقدمهم البرق ، وهو ينبح بأعلى صوته .
" 16 " ـــــــــــــــــــــــ جلس فلاح ومرجانه والجدة ، ينتظرون في الفناء ، صامتين ، وربض " البرق " في مواجهتهم ، صامتاً أيضاً . ونظرت الجدة إلى " البرق " ، وقالت : مسكين ، إنه يتضور جوعاً . والتقط فلاح الإشارة ، ورمق مرجانه بنظرة خاطفة ، وقال : مع أن أفضاله لا تنسى . وقالت مرجانه بنبرة مازحة : لن يأكل حتى يأتي بابا والعم سندباد . وتساءلت الجدة قائلة : وإذا لم يأتيا ؟ وردت مرجانه قائلة : سيأتيان ، إنهما دائماً عند وعدهما، قالا بعد الظهر ، وسيأتيان بعد الظهر بالتأكيد . وتنهدت الجدة محدقة في " البرق " ، وقالت : صبراً يا برق ، صبراً ، ستتغدى اليوم ، لكن بعد غروب الشمس . وهنا رفع البرق رأسه ، ونبح فرحاً . فنهض فلاح ، وقال : جاءا ، أعدا السفرة . وقبل أن ينتهي من كلامه ، طرق الباب ، فأسرع إليه ، وفتحه ، وإذا هو أمام حسام وأبيه . وبدل أن يعانقاه كعادتهما ، دخلا متجهمين ، فنهضت الجدة ، متحاملة على نفسها ، وقالت : حمداً لله على السلامة . وردّ عبد الرحمن قائلا : يسلمك الله ، يا أمي . ونظر حسام إلى مرجانه ، التي وقفت تتطلع إليه ، وقال : أخبروني ، ماذا جرى في غيابنا ؟ هيا ، أخبروني . ووقف فلاح والجدة حائرين ، لا يعرفان ماذا يفعلان . فأسرعت مرجانه إلى حسام ، ومدت يديها نحوه ، تعانقه بشدة ، وقالت : ليس الآن ، الطعام سيبرد ، لنتغد أولاً . وتطلع عبد الرحمن حوله ، ثم قال : حسن ، نحن جائعين ، لنتغدّ . وحدق حسام في مرجانه ، وكأنه يريد أن يتأكد من أنها على ما يرام ، ثم التفت إلى فلاح ، وقال : يا للغرابة ، سمعت القرصان الأعور يتسول في الأسواق . فرد فلاح قائلاً : عفواً يا عم ، إن القرصان الأعور لم يعد أعوراً . ونظر أبو فلاح إلى الجدة وحسام ، مغالباً ضحكته ، فقد حسب أن الأمر مجرد مزحة ، فقالت الجدة : هذا حق ، فقد صار أعمى تماماً . وتلفت حسام حوله حائراً ، ثم قال : هذا لغز ، حبذا لو توضحوه لنا . واتجهت مرجانه نحو المطبخ ، وقالت مخاطبة حسام : أعددت لك الطعام الذي تحبه . وصاح فلاح : سأحضر الجرة . وضحكت الجدة ، واحتجت مرجانه مغالبة ابتسامتها : فلاح . وأحضر فلاح الجرة ، وقال : إنها لي ، فقد تعود العم حسام على بهاراتك . وعلقت الجدة بنبرة خاصة : لا تتعجل يا فلاح ستتعود أنت أيضاً عليها ، إن شاء الله . وضحك حسام وأبو فلاح ، ورمق فلاح مرجانه خجلاً ، فأسرعت مرجانه بالدخول إلى المطبخ ، وقد توردت وجنتاها.
4 / 7 / 2004
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصص للأطفال عصر الديناصورات
...
-
قصة للفتيان اب
...
-
قصة للأطفال الغرير الصغير
...
-
قصص قصيرة جداً عبارة الموت
...
-
ثلاث روايات قصيرة للأطفال طلال حسن
-
محطاتي على طريق أدب الأطفال
...
-
أسد من السيرك
-
قصة للأطفال الترمجان قصة
...
-
رواية للفتيان اورانج اوتان
...
-
قصة للأطفال آدزانومي قصة طلال حسن
-
رواية للفتيان تار والسندباد
...
-
نصان للفتيان الفقمة
...
-
مسرحية للأطفال الفقمة الصغيرة طلال حسن
-
رواية للفتيان دلمون الأعماق
...
-
مسرحية ريم للاطفال
-
رواية للفتيان الغابة طلال حسن
-
رواية للفتيان دموع رينيت طلال حس
...
-
قصة للأطفال آتٍ مع الشمس
-
رواية للفتيان ايتانا الصعود إلى سماء آنو
...
-
رواية للفتيان بدر البدور
...
المزيد.....
-
-سنجعله عظيما مرة أخرى-.. ترامب يعين نفسه رئيسا لمركز -جون ك
...
-
قناة RT العربية تعرض فيلم -الخنجر- عن الصداقة بين روسيا وسلط
...
-
مغامرة فنان أعاد إنشاء لوحات يابانية قديمة بالذكاء الاصطناعي
...
-
قتل المدينة.. ذكريات تتلاشى في ضاحية بيروت التي دمرتها إسرائ
...
-
في قطر.. -متى تتزوجين-؟
-
المنظمات الممثلة للعمال الاتحاديين في أمريكا ترفع دعوى قضائي
...
-
مشاركة عربية في مسابقة ثقافة الشارع والرياضة الشعبية في روسي
...
-
شاهد.. -موسى كليم الله- يتألق في مهرجان فجر السينمائي الـ43
...
-
اكتشاف جديد تحت لوحة الرسام الإيطالي تيتسيان!
-
ميل غيبسون صانع الأفلام المثير للجدل يعود بـ-مخاطر الطيران-
...
المزيد.....
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
المزيد.....
|