|
بيروت.. وجه الله في مرآة البحر
سامح قاسم
الحوار المتمدن-العدد: 8112 - 2024 / 9 / 26 - 17:54
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
بيروت، تلك المدينة التي يتقاطع فيها الضوء مع العتمة، والشِعر مع الرصاص، والألم مع الرجاء، لطالما كانت معبرًا للأزمنة، وجسرًا بين السماء والأرض. في كل زقاق من أزقتها يختبئ تاريخٌ من الغرق والنجاة، وفي كل زاوية يقف صوتٌ هادر يتحدى الزمان والمكان. إنها مدينة الله، المكان الذي يتسرب فيه الغناء رغم جراحها، ويتجلى فيها الحمال في أبهى صوره، رغم الفوضى التي تكتنف تفاصيلها. بيروت، المدينة التي تطل على البحر كأنها تحمل على عاتقها أعباء العالم بأسره، تنظر إلى الأفق وكأنها تبحث عن سرٍ خفي. هناك في هذه المدينة، يلتقي الجمال بالألم، والبحر بالسماء، حيث تقول الجدران المشققة حكايات النجاة والخوف، وتبقى عيون الناس مفتوحة على الأمل. "بيروت، مدينة تبدو وكأن الله قد أودع فيها أسرار الخلق والتجدد. ففي كل مرة تنهض من الرماد، كأنها تنطق بلغة الخلود." في نظر الله، كما في نظر أهلها، كانت بيروت مدينة لا تُهزم. كلما ضُربت أو غُدرت، كانت تنهض من جديد، عاقدة العزم على الحياة، مستمدة قوتها من إيمان عميق بأن المقدس يقطن في تفاصيلها البسيطة، في كل حجر وفي كل زهرة تتفتح على شرفاتها المتعبة. قد تكون بيروت أكثر المدن التي تشهد على الألم والفداء، لكنها أيضاً أكثرها تمسكاً بالحياة، وكأنها تدرك أن الله لا يتخلى عن الباحثين عن الحب، الساعين إلى المودة والسلام. كانت بيروت على الدوام ملاذاً للأحرار، وللشعراء الذين جعلوا من هذه المدينة أيقونة للبطولة والرثاء. كيف لا، وهي التي شهدت الحروب، لكنها بقيت، كأن السماء قد حفظتها من الزوال. "السماء فوق بيروت ليست كالسماء فوق المدن الأخرى، إنها سماء تدمع وتضيء، تترقب وتحنو. الله هنا، بين الأنقاض والشوارع، قريب من الأيدي التي تصلي ومن تلك التي تعمل." بيروت ليست مجرد مدينة، إنها كائن حي. كلما حاولت الحروب أن تخنقها، كانت تُولد من جديد. وكأنها تقول للعالم إن الله في كل ذرة من ترابها، وأن الصمود هو صلاتها الأبدية. إن من يمرّ في شوارعها، لا يمكن إلا أن يشعر أن هناك قوى غير مرئية تحميها من الانكسار. في كل حي من أحياء بيروت، ثمة روح تنتظر من يكتشفها. كما أن الله لم يخلق الجمال فقط في السماء، بل أودع شيئاً منه في هذه المدينة التي تمزج بين الطوائف، وبين الماضي والحاضر، بين التراث والحداثة. إنها مدينة الله بكل معنى الكلمة، ففي صلب تاريخها تظهر لحظات من التجلي الإلهي. عندما تشاهد مشهد الغروب على البحر، أو تستمع لصوت المآذن مختلطة بأجراس الكنائس، تدرك أن الله قد بارك هذه الأرض لتكون شاهدة على كل ما هو مقدس. "بيروت، هي الصليب الذي نحمله في أرواحنا، هي القبلة التي لا يغيب عنها الإيمان، مهما غابت الشمس عن سمائها." بيروت هي تلك المدينة التي رغم الجراح التي تنزف منها، لا تفقد بريقها. وكأن الله قد وهبها روحاً لا تموت، حتى في أقسى اللحظات. هذه الروح تجسدت في مقاومتها لكل ما مر بها من ويلات. لم تكن بيروت فقط مسرحاً للصراعات، بل كانت ولاتزال رمزاً للصمود. بيروت مدينة الشهداء، أولئك الذين اختاروا التضحية بأنفسهم لأجل حياة أفضل. كل ركن في المدينة، كل شارع، كل زاوية يحمل في طياته ذكرى لمن غادروا حياتهم ليمنحوا لمدينتهم الأمل بالاستمرار. هؤلاء هم من جعلوا من بيروت مدينة الله، مدينة تشهد على أن الدماء لا تذهب هباء، وأن الفداء هو طريق الخلود. "في كل روحٍ فارقت جسدها على أرض بيروت، كان الله حاضراً، يبارك الشهداء ويُخلد ذكراهم. إنهم أبناء النور الذين لا يخشون العتمة." في لحظات الحرب والحصار، حين تبدو السماء بعيدة والأرض قاسية، تظل بيروت تشهد على معجزة الخلق. إنها مدينة الله لأنها تعرف كيف تحوّل الفناء إلى حياة، وكيف تجعل من الموت شهادة على الحق، ومن الصمت صرخة في وجه الظلم. لطالما كانت بيروت مصدر إلهام للشعراء والكتاب، الذين رأوا فيها المدينة التي تجمع المتناقضات. إنها المدينة التي تُصلي بلا توقف، تدعو إلى الله في كل لحظة، وتسأل عن رحمته في كل ضربة تلقتها. وكما كتب محمود درويش: "بيروت، خيمتنا الأخيرة.. بيروت، طريقنا إلى السماء." بيروت لم تكن يومًا مدينة عابرة في جغرافيا العالم، بل هي نقطة التقاء بين الأرض والسماء، بين ما هو مادي وما هو روحي. شعراءها وأنبياؤها كانوا على الدوام يستلهمون من قوتها ليعبروا عن الإيمان الذي لا يموت، والحب الذي لا يفنى، والصمود الذي لا يُقهر. بيروت، مدينة الله التي تسكن بين البحر والسماء، بين الجرح والأمل، تبقى على الدوام عنوانًا للصمود والإيمان. إنها المدينة التي تحمل في قلبها قوة الخلق والصمود، تلك القوة التي تستمدها من الإيمان بأن الله موجود في كل ركن من أركانها، في كل حجر، وفي كل روح تعبر شوارعها. بيروت ليست مجرد مدينة على خريطة، إنها شهادة حية على صلوات المقهورين. تبقى بيروت مدينة الله، لأن فيها يُعانق الإيمان الحياة، وتُولد المعجزات من رماد الحروب.
#سامح_قاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عواقب الخذلان العربي للمقاومة في غزة ولبنان
-
المثقف والمقاومة وجهان لعملة واحدة
-
الخيانة ليست وجهة نظر
-
المقاومة فوق القوة
-
المثقفون المرتزقة: من تحريف الحقيقة إلى تشويه الثقافة
-
مثقفو الهامش: بين الاستبعاد والخروج عن المألوف
-
في وصف الخذلان
-
تاريخ الكذب: من الفلسفة إلى الواقع
-
مجنون ليلى عند المتصوفة: تجليات العشق وصولا إلى العرفان
-
السلطة والجنون: تجليات التأثير والمصير
-
فلسفة الجمال عند العرب: تأملات في الوجود والحُسن
-
حذاري أن تُحبوا من أعماق قلوبكم
-
تاريخ الأفكار: مسيرة العقل في مواجهة السلطة عبر العصور
-
الحرية بين الفكر العربي والغربي.. يقول الجسد: أنا مهرجان!
المزيد.....
-
دول أوروبية تعلق البت بطلبات لجوء السوريين واليمين المتطرف ا
...
-
شهادات سجن صيدنايا.. مجند يروي ما حدث له لمخالفته الأمر بقتل
...
-
محمد نبيل بنعبد الله الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية ير
...
-
المعنى الحقيقي للسابع من أكتوبر
-
حماس والفصائل الفلسطينية تعلق على إسقاط نظام الأسد
-
سقوط نظام بشار الاسد محور ايران – روسيا انهار
-
إعلام: -حماس- تطلب من الفصائل الفلسطينية إحصاء الأسرى الإسرا
...
-
خراطيم مياه لتفريق متظاهرين مؤيدين لأوروبا في جورجيا
-
لكل ديكتاتور نهاية “سقط الأسد”
-
اليوم الـ 70 من الإضراب.. ادعموا «ليلى سويف» ضد قمع النظام
المزيد.....
-
ثورة تشرين
/ مظاهر ريسان
-
كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي
/ الحزب الشيوعي السوداني
-
كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها
/ تاج السر عثمان
-
غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا
...
/ علي أسعد وطفة
-
يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي
/ محمد دوير
-
احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها
/ فارس كمال نظمي و مازن حاتم
-
أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة-
/ دلير زنكنة
-
ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت
...
/ سعيد العليمى
-
عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|