|
عن الطوفان وأشياء أخرى (19)
محمود الصباغ
كاتب ومترجم
(Mahmoud Al Sabbagh)
الحوار المتمدن-العدد: 8146 - 2024 / 10 / 30 - 04:49
المحور:
القضية الفلسطينية
-ما الذي يمنع إسرائيل من تنفيذ نكبة جديدة؟ في آب 2022 اقترح الفاشي إيتمار بن غفير إنشاء وزارة لـ “تشجيع هجرة" الفلسطينيين، وبالأخص أولئك الذين "يريدون القضاء على الدولة اليهودية" (1). وإذن فأفضل السبل للتخلص من الفلسطينيين -وأكثرها واقعية حسب بن غفير وأمثاله- وكي لا يخرجوا نهائياً من التاريخ العالمي عبر فنائهم أن يقبل المجتمع الدولي بالأحرى يدعم ويموّل هجرة طوعية كحل إنساني" لأزمتهم الوجودية. طيب... قد لا يعلم الكثير أن إسرائيل منعت نحو 9000 فلسطيني (من الذين غادروا الضفة وقطاع غزة) بين حرب العام 1967 وتوقيع اتفاقية أوسلو 1994 من العودة إلى ديارهم؛ حسبما تؤكده منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية هَموكيد HaMoked... صحيح أن العدد يكاد لا يقارن بما حصل عامي 1948 و1967؛ ولكن حدوثه يؤكد على الموقف الإسرائيلي الثابت من الوجود المادي للفلسطيني حيثما وكيفما كان ويكون وسيكون. ناهيك عن السياسات الإسرائيلية المعروفة في القدس الشرقية (تذكر منظمة بتسيلم B’Tselem عن إلغاء السلطات الإسرائيلية إقامة حوالي 14000 فلسطيني مقدسي منذ العام 1967). وطبعاً هذه الأرقام مرشحة للارتفاع في ظل الوضع الحالي الذي تعيشه الأراضي المحتلة وإسرائيل، وفي ظل وجود حكومة متطرفة فاشية حالية. إذ لم يعد يقتصر الأمر على "ممارسات احتلال" شائعة يتم توصيفها بـ "انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وتمييز منهجي ضد السكان المدنيين والاعتداء على حياتهم ومعيشهم اليومي؛ بل تحول السلوك إلى أوامر مباشرة بالقتل الميداني والإعدامات وسهولة ارتكاب الفظائع -باستخدام الذكاء الاصطناعي أو دونه- دون محاسبة، فضلاً عن قبول المجتمع الإسرائيلي لهذه الممارسات دون حتى التفكير في عواقبها. ووفقاً لبيانات الأمم المتحدة؛ قتلت إسرائيل في العام 2022 من الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية أكثر من أي عام آخر منذ العام 2006 (2) (أي مع اقتراب نهاية الانتفاضة الثانية). وإذن، لم يعد الأمر يتعلق بتعريف أو تصنيف سلوك إسرائيل بأنه "وحشي" أو "يتنافى مع القانون الدولي"... أو غيرها من العبارات المخدّرة، فنحن -وأقصد نحن الفلسطينيون ومن في حكمنا- نعرف تماماً ما هي "الوحشية" الإسرائيلية، وكيف أن هذه الوحشية لا علاقة لها بمن يحكم هناك. فجميع المسؤولين الإسرائيليين من الاتجاهات كافة يتغزلون علناً بفكرة الطرد الجماعي و"النكبة الثانية" (في واقع الأمر لا فرق بين "اليمين" و"اليسار" عند هذه النقطة بالذات). فموضوع تهجير الفلسطينيين (ترانسفير) يقع على رأس أجندة بتسلئيل سموطريتش؛ وزير المالية الحالي، والذي يشرف أيضاً على الإدارة المدنية في الضفة الغربية، ويعتقد سموطريتش أن الترانسفير هو الحل الأمثل لإنهاء الصراع مع الفلسطينيين (3). إن تجربة انتفاضتين سابقتين للفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة أنتجت المزيد من التطرف الإسرائيلي على شاكلة بن غفير ونفتالي بينيت وسموطريتش وغيرهم حتى أن هذا الأخير اعتبر وجود عرب في الكنيست أمر خاطئ لأن بن غوريون "لم ينه المهمة" (4)؛ وبالتالي ليس صعباً تخيل تفسير سموطريتش لأي انتفاضة فلسطينية أخرى كدليل على أن آلافاً؛ إن لم يكن ملايين الفلسطينيين يحتفظوا فعلياً بـ "تطلعات وطنية"، وبالتالي يجب تقديم المساعدة لهم لمغادرة البلاد. وما نشهده الآن هو بلورة إسرائيلية للتوصل إلى حل أمني دائم. فبعد فشلها في "إدارة الصراع"، وتفسير هجوم السابع من تشرين بصدمة شبيهة بالهولوكوست (5)، يعلن قادة إسرائيل الآن أن هؤلاء "النازيين" الفلسطينيين لا ينبغي لهم أبداً تشكيل تهديد لإسرائيل مرة أخرى. وبات واضحاً أن هدف إسرائيل لم يعد تدمير حماس ككيان سياسي وعسكري -وهو هدف أمني لا شك- فحسب، بل تسير الخطة نحو حشر أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، إن لم يكن جميعهم، في جنوب قطاع غزة، بهدف إقامة منطقة عازلة دائمة في الشمال، وفي نهاية المطاف، دفع سكان القطاع عبر الحدود إلى مصر. يفرض المنطق الاستراتيجي للأداء الإسرائيلي في غزة (ومن ثم في لبنان لاحقاً) أن ضغط الكارثة الإنسانية الناتج عن الأعمال العسكرية الوحشية، سوف يضع العالم أمام خيارين (هما بالأساس من صنع الدوائر الأمنية الإسرائيلية) إما القبول بطي صفحة القضية الفلسطينية عبر توطين الفلسطينيين حيث هم وتهجير من بقي منهم في فلسطين التاريخية؛ أو المتابعة الصامتة لإبادة شعب كامل. حتى أن خطط إعادة الاستيطان في غزة باتت جاهزة واختيار أسماء العائلات وعدد البيوت ... وما إلى ذلك؛ وتعمل مراكز الأبحاث الأمنية الإسرائيلية (مثل معهد مسغاف للأمن القومية والاستراتيجية الصهيونية) على صياغة خطط لتحقيق متطلبات المؤسسة الأمنية الحكومية الإسرائيلية. وعلى هذا سيخضع سكان قطاع غزة البالغ عددهم 2.4 مليون نسمة؛ مثلهم في الضفة الغربية وضعفهم في لبنان لضغط القوة العسكرية الإسرائيلية لتحقيق الاستراتيجية السياسية للحكومة بالتوافق مع المخططات الأمريكية لإعادة صياغة الشرق الأوسط بنكهة صهيونية ومذاق أمريكي (6). وكان هذا هو الهدف المعلن من قبل نتنياهو (16 نشرين الأول 2023): "هدفنا هو النصر؛ تحقيق انتصار على حماس، وإسقاط نظامها وإنهاء تهديدها لدولة إسرائيل دون رجعة". فالغاية الأمنية هي "إزالة" أي تهديد محتمل نشط على حدود إسرائيل" أما كيف يتحقق ذلك؟ فعبر نكبة جديد ستبقي بظلالها على نكبة 1948 وتتجاوزها. ستكون النكبة الجديدة في غزة درساً وعبرة لكل من يجرؤ على الانضمام للهجوم ضد إسرائيل؛ على حد قول أريئيل كالنر عضو الكنيست عن حزب الليكود. جميع المؤشرات تشير إلى أن أحداً لن يعترض على الخطة الأمنية الإسرائيلية؛ لاسيما القوى الفاعلة الرئيسة ( الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي)، إذ سبق تنفيذ مخططات كهذه فيما مضى، حتى أنه قد يفهم الدعم الغربي لقضية اللاجئين وتخصيص ميزانيات لها لدعم البلدان التي يعيش فيها اللاجئون تحت غطاء "إنساني" ليس سوى مواصلة لتقاليد قديمة عرفها العالم الغربي، فقد جرت عمليات نقل وتبادل سكانية واسعة عبر أوروبا وآسيا "بهدف خلق تجانس للمجتمعات وضمان وحدتها" حيث فر الكثير (بالأخص من الأقليات) من دول مثل تركيا واليونان والنمسا وإيطاليا والهند وفلسطين ودول أوروبا الوسطى في سياقات هذا التجانس منذ نهاية الحرب العالمية وحتى الآن. لافت للنظر أن اليساريين الأوروبيين -لنقل التقدميين- فيما مضى اعتبروا أن نقل الأقليات أمر مزعج لا شك؛ غير أنه مفيد لجهة تحقيق سلام مستدام أو طويل الأمد. ومازالت بعض الدول (مثل الهند والصين وروسيا وسريلانكا تؤمن بهذا التوجه، أي خضوع السكان الأصليين والأقليات للأغلبية الحاكمة، وإلا فالقهر والقتل والترحيل والدمار سيكون مصيرهم. وفي المقابل كانت أنشطة "مكافحة الإرهاب" بزعامة الولايات المتحدة سبباً في قتل عشرات الآلاف من المدنيين وتدمير مجتمعات ودول بأكملها وتحويلها إلى دول فاشلة بكل معنى الكلمة (أفغانستان، العراق، سوريا، ليبيا، اليمن، السودان.. وغيرها). وعند هذه النقطة سوف تواجه الشعوب الأصلية (والمحتلة) موقفاً مستحيلاً أشبه بالعطالة؛ فإن هم قاوموا المستعمِر بالوسائل العنيفة فسوف يتم قمعهم بعنف أشد قوة وفتكاً، وتطبيق القواعد الأمنية المذكورة أعلاه (المثال هنا المقاومة في غزة والمقاومة في لبنان، وقبل ذلك طالبان) ولو اختاروا سبيل عدم المقاومة، فلن يتركوا لشأنهم، إذ قد يتغاضى المستعمِر (أو المحتل أو المهيمن) عن حدة العنف قليلاً أو مؤقتاً ولكنه سيتواصل، أي العنف الخفيف (مثل المطر الناعم) ضدهم إلى أن يفنوا. (والأمثلة هنا كثيرة) (7). ما نراه من المجتمع الدولي المؤثر هو الإصرار على دعم إسرائيل من جهة واتهام الفلسطينيين بعدم تبني سياسات اللاعنف، في الحقيقة هناك "عنف" في هذا الإصرار على "اللاعنف" لأنه يعني في الواقع الطلب من الفلسطينيين التخلي عن أساليب نضالهم المتنوعة وقبولهم بالموت. وفي الوقت الذي يتهمون الفلسطينيين بالإرهاب لانتهاجهم الكفاح المسلح ضد إسرائيل لا نراهم يدعمون المقاومة اللاعنيفة؛ بل حتى هذه يتم شيطنتها وقمعها بوحشية واتهماها بـ "معادة السامية" فالعديد من الولايات الأمريكية تجرم حركة القاطعة BDS (وكذلك تفعل ألمانيا) ووسمها بحركة معادية للسامية (لنتذكر مسيرات العودة السلمية في غزة ما بين 2018 و2019، كيف قوبلت بعنف إسرائيلي مفرط أدى إلى مقتل 233 غزي وجرح وتشويه نحو 6000 فلسطيني دون أن يرافق ذلك أي تحرك عملي لوقف العنف الإسرائيلي ضد المتظاهرين المسالمين). ومثل هذه القيود على مناقشة مسألة الإبادة الجماعية قد تستغل من قبل البعض، لتقديم تأويلات أوسع بكثير من المعنى المراد به؛ وبالتالي توجيه الأنظار نحو مطارح أخرى (حتى لو كانت على هيئة رزم قانونية) للتقليل من حجم التهم الموجهة إلى إسرائيل بقيامها بجرائم دولة وحشية وبشعة ضد الإنسانية (8) وما يجري في غزة (وفي الضفة العربية) له تفسير واحد -أو على الأقل تفسير مرجح من بين عديد من التفسيرات- وهو التسامح الغربي (ومن خلفه العربي) وإلى أجل غير مسمى مع الظروف التي تخلقها إسرائيل، والقصد منها، أي الظروف، تطبيق المبدأ الشاروني لجعل حياة الناس هناك لا تطاق، كثير من دول وشعوب العالم لا تسأل -ـأو ليس من ضمن أولوياتها أن تسأل- ما إذا كان لإسرائيل الحق في الوجود فقط -وهو السؤال المعتاد في الغرب-. بل نراهم يسألون عن حق فلسطين بهذا الوجود. ومن هنا؛ وإذ نراهم يستنكرون ما قامت به حماس في السابع من تشرين؛ إلا أنهم لا يعتبرونه هجوماً "غير مبرر" مثلما تراه معظم الدول الغربية. لعل العالم يعتقد أن ما فعلته حماس أمر فظيع، لكن ما فعلته إسرائيل -بعد ذلك- يجعل احتمالات عيشها بسلام مع جيرانها مستحيلاً. .... 1. https://www.timesofisrael.com/ben-gvir-says-hed-seek-to-expel-arabs-who-attack-idf-soldiers-disloyal-mks/ في الواقع لا يقصر بن غفير رؤيته هذه على الفلسطينيين في الصفة الغربية؛ فخلال حملته الانتخابية في العام2022 نصب أنصاره لوحات دعائية كبيرة في الشوارع تمثل صور لأعضاء كنيست عرب كًتب عليها "ليُطرد أعداؤنا". للمزيد انظر https://www.timesofisrael.com/mayor-wont-remove-far-right-faction-poster-calling-for-banishing-enemy-arab-mks/ ويرى سموطريتش- بدوره- أن المستوطنين اليهود يجب أن يعودوا إلى قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، وأن فلسطينيي القطاع يجب أن يتم تشجيعهم على الهجرة إلى دول أخرى. وأكد أن خروج الفلسطينيين من قطاع غزة من شأنه أن يفتح أيضا الطريق أمام إعادة إنشاء مستوطنات يهودية في أراض فلسطينية. 2. قتلت إسرائيل 230 فلسطينياً؛ بينهم 171 في الضفة الغربية، و53 من غزة و6 من فلسطينيي 48 (من بينهم 61 طفلاً: 44 طفل في الضفة و17 طفلاً في قطاع غزة). وجاء في أحدث تقرير أصدره مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي المحتلة (OCHAoPt) أنه قياساً على المتوسط الشهري، كان عام 2022 أكثر الأعوام دموية للفلسطينيين في الضفة الغربية منذ بدأت الأمم المتحدة بتسجيل الوفيات بشكل منهجي في عام 2005. كما أصيب 9335 فلسطينياً في مواجهات مع جيش الاحتلال الإسرائيلي أو أثناء اقتحامه للمناطق الفلسطينية. وكان هناك 6500 حالة اعتقال بين الفلسطينيين، نحو 4700 منهم ما زالوا في السجون الإسرائيلية. 3. طرح سموطريتش في العام 2017 ما أسماه "خطة الحسم" يعرض فيها على فلسطينيي الضفة الغربية الموافقة على "التخلي عن تطلعاتهم الوطنية"، أي المطالبة بدولة فلسطينية أو جنسية إسرائيلية كشرط للسماح لهم في البقاء في الضفة الغربية بصفتهم مواطنين عديمي الجنسية، أو في حال الرفض فسوف تعرض عليهم الدولة ما دعاه "مساعدة للهجرة". ورغم أن الخطة لا تشمل سوى فلسطينيي الضفة الغربية، فقد أكد سموطريتش عدة مرات أن الفلسطينيين وراء الخط الأخضر الذين يتحدون السيادة اليهودية سيلقون ذات المصير. 4. يذكر في هذا الصدد ما أعلنه سموطريتش في تغريدة (نيسان 2021) موجهة إلى عضو الكنيست الفلسطيني أحمد الطيبي، أن "المسلم الحقيقي يجب أن يعرف أن أرض إسرائيل ملك لشعب إسرائيل، ومع مرور الوقت لن يبقى هنا عرب مثلك لا يعترفون بذلك"؛ وفي خريف العام 2021 اعتبر وجود عرب في الكنيست أمراً خاطئاً؛ لأن بن غوريون "لم ينه المهمة ويطردكم خارجاً في العام 1948". 5. أعاد هجوم حماس على إسرائيل إلى الواجهة موجة جدل دولية واسعة حول مفهوم الإبادة الجماعية. ونظر بعض أهل الاختصاص في حقل دراسات الإبادة الجماعية، من بينهم المؤرخ الإسرائيلي راز سيغال وعالم الاجتماع البريطاني مارتن شو، إلى الهجوم الإسرائيلي الانتقامي على قطاع غزة بصفته إبادة جماعية، وقبل هؤلاء.. وبعدهم؛ أصدر خبراء قانون دوليين بيان يدين هجوم حماس الذي راح ضحيته 1,200 إسرائيلي وأشاروا إليها بعبارة "الإبادة جماعية"؛ واعتبرت مجموعة من المتخصصين في الهولوكوست أن ما جرى في غلاف غزة يوم السابع من تشرين الأول الماضي أعاد إلى الأذهان "المذابح [بوغروم] التي مهدت الطريق للحل النهائي". وترافق الجدل القانوني حول الإبادة الجماعية مع انتشار واسع لحركة احتجاج عالمية -هي الأكبر منذ حرب الخليج الثانية- تندد بما تقوم به إسرائيل في قطاع غزة باعتباره إبادة جماعية، وتطالب بوقف إطلاق النار. وتعبر وجهة نظر المحتجين عن حالة من الغضب والحزن إزاء تدمير الحياة العارية الرثة المثيرة للحزن. وسعى هؤلاء إلى استيلاد حالة ضغط سياسي لمنع إسرائيل من تنفيذ أجندتها الأمنية والعسكرية، ويأملون، لو ينجحون في النهاية، في تأسيس شكل من المساءلة القانونية الدولية وتجريم العنف العسكري الإسرائيلي بوضعه في ذات الإطار الذي تتوضع فيه الهولوكوست، باعتبارها حالة نموذجية للإبادة الجماعية. 6. أسهمت الإدارات الأمريكية المتعاقبة في قلب تفاهمات أوسلو ومدريد إلى تأبيد الاحتلال، كما ساهم صعود اليمين الصهيوني في تعميق طوبولوجيا الإرهاب الصهيوني، مما أنتج خللاً واضحاً في المعيش اليومي الفلسطيني في الداخل، ولعل المؤقت اليومي كان له أفدح المخاطر على حياة الفلسطيني هناك، فالمؤقت هو ما يراهن عليه المحتل فيصبح الاستيلاء على بعض المناطق مؤقت والانسحاب منها مؤقت والتطويق مؤقت، والإغلاق مؤقت وتصاريح العبور مؤقتة، وإلغاء هذه التصاريح هو أيضا إجراء مؤقت، وسياسة الطرد والإبعاد مؤقتة، والقصف و وقف إطلاق النار مؤقت… وهكذا عندما يتلاعب المحتل في المؤقت، فإن كل شيء- كل ما هو حي ويتحرك- يخضع لإرادته وجبروته وعسف قراراته، وهو يدرك أنه يلعب دائماُ في الوقت الضائع، (في الواقع في الوقت المسروق من الآخرين)، ليتحول إلى إدارة غير مقيدة وذات سيادة لا حدود لها، وعندما يكون كل شيء مؤقت فإن أي شيء تقريباً -أي جريمة، أي شكل من أشكال العنف- يكون مقبولاً، فالمؤقت يمنحه ترخيصاً و يضمن له الاستمرار في فرض حالة “الطوارئ”، وعندها تتحول معالم الوطن “المحتل” إلى رموز هندسية وحواجز وطرق التفافية ومجاز غير واضح لا شيء فيه ثابت تتحرك فيه و تتضاعف مساحات الاستثناء على حساب ” المطلق” المكاني و الزماني. 7. زعم النازيون أن الأحياء اليهودية "الغيتوهات" كانت ضرورية لـ "حماية غير اليهود" من الأمراض التي تنتشر بين اليهود. وزعمت إسرائيل أن عزل غزة، شأنه شأن الجدار في الضفة الغربية، مطلوب لحماية الإسرائيليين من "الهجمات الإرهابية" التي يشنها الفلسطينيون ضدهم. وفي الواقع، لا صحة للادعاءات النازية، في حين أن الزعم الإسرائيلي ينبع من أعمال عنف فعلية ومتكررة. هذه اختلافات جوهرية. ومع ذلك، يقترح كلا الادعاءين أن سلطة الاحتلال يمكن أن تختار عزل وإضعاف -والآن التعريض للقتل- حياة مجموعة كاملة من الناس باسم حماية شعبها، أي سكان دولة الاحتلال. 8. تتمثل صعوبة توجيه مثل هذه التهم إلى إسرائيل لسبب بسيط وهو أن الدول التي وقعت على ميثاق الأمم المتحدة لن تسمح بمنعها من ممارسة حقها في تحقيق أمنها الدائم، ضد أعداء داخليين أو خارجيين. ويشهد نطاق العنف الهائل الذي ارتكب بعد الحرب مع الإفلات من العقاب على نجاح الدول في سلوكها ضد أعدائها. صحيح أن الدول وافقت على معاهدات واتفاقيات أممية أخرى، مثل اتفاقيات جنيف، باعتبارها "تقييداً للحرب"، لكنها بذلت قصارى جهدها أيضاً لتجنب مثل هذه القيود. لقد قتلت الولايات المتحدة وروسيا معاً الملايين من المدنيين في حروبهما الإمبريالية في كوريا وفيتنام والشيشان. وكذلك فعلت دول ما بعد الاستعمار مثل نيجيريا وباكستان في محاربة الانفصال. وقد تم توجيه مزاعم الإبادة الجماعية في بعض هذه الحالات في حملات عالمية مثل الحملة التي نراها الآن، ولكن لم يتم تثبيت أي منها، وطويت صفحتها، إلى حد كبير، من سجلات العنف الجماعي ضد المدنيين. ويبدو في حقيقة الأمر أن على المدافعين عن فلسطين اليوم مواجهة احتمال نسيان دعواهم، كما حصل لغيرهم، وتكاد تكون المقارنات الناجحة مع الهولوكوست مستحيلة عملياً -لا سيما من قبل الفلسطينيين ضد إسرائيل التي تعتبر ذكرى الهولوكوست جزء من مشروع دولتها. لكن الميثاق العالمي للأمم المتحدة لا يعكس وجهة نظر الضحية، فهو في واقع الحال يحمي الجناة.. بكلام آخر؛ يحمي الدول التي تسعى إلى الأمن المستدام. وهكذا وحدت معظم الدول الغربية صفوفها خلف إسرائيل ودعمتها. واعتبرت حماس هي المسؤولة الوحيدة عن الصراع الحالي. وغاب عنهم الاعتراف بالتاريخ الذي أدى إلى هذا الوضع الذي نحن فيه اليوم. فعلى سبيل المثال، معظم الفلسطينيين في قطاع غزة ليسوا من سكان القطاع أصلاً، بل هم لاجئون من التطهير الصهيوني لقراهم في العام 1948. ولديهم كل المشاعر المشروعة والرغبة في العودة إلى تلك القرى، المدمرة الآن، وهم وحدهم ربما من يتذكر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 (الدورة الثالثة) الصادر في 11 أيلول 1948، والذي ينص على أنه "وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم".
#محمود_الصباغ (هاشتاغ)
Mahmoud_Al_Sabbagh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (18)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (17)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (16)
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
-
عن الطوفان وأشياء أخرى( 15)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (14)
-
عن الطوفان واشياء أخرى (12)
-
عن الطوفان واشياء أخرى (13)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (11)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (10)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (9)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (8)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى(7)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى(6)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (5)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (4)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى(3)
-
دور حدّادي أفريقيا و-صنع- الثورة الصناعية في أوروبا
-
عن الطوفان وأشياء أخرى(2)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى(1)
المزيد.....
-
البرازيل.. إطلاق نار في مطار ساو باولو ومقتل رجل أعمال فيما
...
-
مجازر إسرائيلية وأزمة غذائية خانقة بغزة واستمرار قصف الضاحية
...
-
زعيمة المعارضة البيلاروسية تؤكد: -الجدار السياسي في البلاد س
...
-
توقيف ملاحقة ترامب الجنائية مؤقتا وقلق من إنكاره أزمة المناخ
...
-
توجيه عاجل من وزير الداخلية اللبناني بعد حريق شارع الحمرا (ص
...
-
موسكو: نظام كييف يرعى الإرهابيين علنا في إفريقيا
-
بيلوسي تحمّل بايدن مسؤولية خسارة الحزب الديمقراطي الانتخابات
...
-
بينها أطراف مومياء.. مصر تسترد 67 قطع أثرية من ألمانيا
-
منارورات روسية سورية بمشاركة أحدث المقاتلات (فيديو)
-
عراقجي: عواقب اتساع رقعة الحرب لن تقتصر على منطقة الشرق الأو
...
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|