|
ما المقصود بـ(روح المكان وطاقته)؟! وما علاقتها بتكوين هويات الشعوب؟!
سليم مطر
الحوار المتمدن-العدد: 8146 - 2024 / 10 / 30 - 14:24
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
هنالك فكرة سائدة خاطئة بأن (شخصيات البشر، افراد وجماعات) مرتبطة فقط بانتمائهم الديني والاقوامي والعائلي ومستواهم المعرفي. طبعا هذه الامور لها التأثير، لكن يبقى التأثير التاريخي الاكبر والثابت على الجماعات والشعوب، مرتبط اساسا بـ(المكان: الارض والبيئة).
روح وطاقة المكان( ) منذ سنوات جلب انتباهي، تلك الفروق بالسلوكيات والعلاقات السائدة بين ابناء الجالية العربية في كل من (جنيف) السويسرية، و(باريس) الفرنسية، بسبب اختلاف "روحي المدينتين" في عدة امور، رغم انهما ناطقتان بنفس اللغة الفرنسية ونفس الثقافة السائدة. ان اي (مكان)، صغير او كبير، بيت او حارة او وطن او اقليم وقارة، هو مثل الكائن الحي، له (روحه وطاقته الخاصة به التي تؤثر على الكائنات الحية والنبات والبشر، التي تعيش فيه). أي له ( روحه وشخصيته) التي هي نتاج عوامل كثيرة خاصة به: البيئة والمناخ وتاريخ الناس الذين عاشوا فيه والاحداث التي مرت عليه، بل حتى تأثير الموقع بالنسبة للفلك والنجوم. ان روح وطاقة (بناية السجن) تختلف عن( بناية المسلخ) و(الحديقة العامة) و(القرية الزراعية الهادئة) و(المدينة الاسمنتية الصاخبة)، بسبب اختلاف طبيعة ووظيفة مكوناتها وتاريخ ومشاعر الناس الذين عاشوا فيها. ليس صدفة ان اهتمت الجماعات منذ القدم بمسألة (مكان تشييد المدينة والمعبد) فيختارونه حيث يستشعرون فيه (طاقة ايجابية). ويعتقد ان الكثير من الكنائس والمساجد القديمة في العالم، مشيدة في (اماكن طاهرة) متوارثة منذ الانسان الاول. ولنا مثال (الجامع الاموي في دمشق) الذي كان في الاساس معبدا كنعانيا ثم كنيسة مسيحية ثم مسجد.( ) لا زال الاسلام يهتم كثيرا بمسألة (المكان الطاهر) و(المقدس) للصلاة والتعبد والدفن. يقال ان (الخليفة العباسي ابو جعفر المنصور) قد اختار(مكان تشييد عاصمته بغداد) بعد تعليق العديد من الخراف المذبوحة في العديد من مناطق وسط العراق، لاختيار المكان الذي تبقى فيه الذبيحة لم تفسد اطول فترة ممكنة. وقد اطلق الرومان تسمية (روح المكان: Genius loci). ويعتبر(ابن خلدون) اول من تحدث عن دور الجغرافية في خلق تاريخ الشعوب.( ) كذلك كرس الصينيون مجالا من عقيدتهم (التاوية) اسمه (فانغ شوي: Feng Shui) مختص بدراسة طاقة المكان وتنظيم هندسة واثاث المنزل والمكتب، بحيث تنتشر فيه الطاقة الابجابية والصحة والانتاج.( ). ومنذ سنوات هنالك مجالات عدة متعلقة بتأثير المكان: ( الجغرافية الاقليمية: Regional geography) و(علم النفس البيئي: (Ecopsycholo و(سلطة المكان: The Power of Place).
الانسان مثل النبتة، ابن الارض والبيئة ان (روح المكان) هي نتاج عوامل كثيرة معروفة ومجهولة، مثل نوعية التربة وكمية الشمس والريح والغيوم، بل حتى نوعية الغبار والجراثيم السائدة، لها تأثير في الانسان كما في الحيوان والنبات. ليس صدفة ان النخيل يثمر فقط في المناطق المشمسة مثل العالم العربي، ولا يثمر في اوربا الكثيرة الغيوم. بل حتى المناطق الصغيرة في داخلها ثمة اختلافات كبيرة. إذ ترى نفس الجبل تختلف فيه الحياة والزراعة بين جهتيه المتعاكستين، التي تشرق عليها الشمس عن التي تغرب عليها الشمس! كذلل اختلاف حيوانات المناطق الاستوائية في افريقيا والهند، عن حيوانات المناطق الباردة في جنوب وشمال الارض. ان هذا يشرح سبب تلك الفروق الكبيرة في الشخصية والسلوكيات والعادات بين سكان الجبال والبوادي والبحار. كذلك سكان المناطق شبه المستوية والجافة والنادرة الغابات مثل العالم العربي، عن سكان اوربا الكثيرة التضاريس والبرد والانهار والامطار والغابات.( ) ليس صدفة ان جميع الحضارات، لم تنشا في المناطق المعزولة والصعبة، مثل الجبال والبوادي والجزر والمنجمدة والاستوائية. جميع الحضارات المعروفة نشأت، اما في السهول النهرية، مثل مصر والعراق والصين، او على ضفاف البحار مثل الكنعانية والقرطاجية واليونانية والرومانية، ثم الحضارة الغربية الحديثة في اوربا وامريكا.( ) ان عظمة (الحضارة العربية الاسلامية) متأتية من جمعها الجغرافي لهذين الجانبين: النهري والبحري. اما الهضاب العالية المحمية بالجبال، مثل الاناضول وايران والمكسيك، فانها قادرة على خلق الدول القوية والامبراطوريات، لكن ارتفاعاتها وعزلتها الجبلية التي تمنح ناسها الصلابة والذكاء التنظيمي، تمنع عنهم (الانفتاح النفسي والفضول المعرفي) التي هي شروط الابداع الحضاري.( )
روح المكان وروح الوطن لهذا، يصح القول بأن اي وطن او اقليم بمختلف جماعاته الاقوامية والدينية، مهما تميزوا عن بعضهم لغويا وثقافيا ودينيا، فأنهم رغما عنهم بشتركون بالانتماء الى (روح الارض) التي يشتركون بالعيش فيها. وبالتالي فأنهم ينتمون جميعا الى (تاريخ وشخصية هذه الارض). أي مثلا، ان (الكردي والتركماني والسرياني، في العراق وسوريا) رغم تمايزه اللغوي والميراثي، فأنه يشترك مع باقي العراقيين والسوريين بنفس (روح وشخصية)هذين البلدين، وينتميان لنفس تاريخهما. نفس هذا الكلام ينطبق على(القبطي والمسلم) في مصر، و(البربري: الامازيغي والعربي) في البلدان المغاربية.( ) أنها حقا لخطيئة تلك الفكرة العرقية العنصرية والدينية السائدة: بأن الانسان ينتمي فقط لجماعته الاقوامية والدينية في كل مكان وزمان مهما اختلفت الاوطان وتباعدت الازمان. ان اشنع مثال عنصري هي (العقيدة الصهيونية) التي الغت جميع (الفروق المكانية والزمانية) بين الجاليات اليهودية المشتته في العالمين الاوربي والعربي، واعتبرتهم (شعبا واحدا موحدا) يحق له الاستيلاء بالقوة على ارض هجرها منذ اكثر من الفي عام، وتبرير طرد شعبها الذي يقطنها منذ الاف الاعوام نحو(ارضه العرقية) المفترضة: الجزيرة العربية!!
لمن يرغب بمطالعة دراستنا هذه مع المصادر والصور، هذا رابطها في موقعنا: https://salim.mesopot.com/hide-feker/171-%D9%85%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%B5%D9%88%D8%AF-%D8%A8%D9%80-%D8%B1%D9%88%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D8%A7%D9%86-genius-loci-%D8%9F-%D9%88%D9%85%D8%A7-%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%AA%D9%87%D8%A7-%D8%A8%D8%AE%D9%84%D9%82-%D9%87%D9%88%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D9%88%D8%A8-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D9%88%D9%82-%D8%A8%D9%8A%D9%86%D9%87%D8%A7%D8%9F.html
#سليم_مطر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
آن اوان شعوبنا ان تنتبه لسيادة (ثقافة المازوخية) والاذلال وت
...
-
من اجل تدوين جديد لتاريخ العالم العربي، غير التاريخ العرقي ا
...
-
حول تسمية: (عرب) وهل هنالك (هوية عربية جامعة)؟ هاهي مقارنة م
...
-
عشرة الاف عام من تاريخ العلاقات بين العالمين العربي والاوربي
...
-
خرافات العلم والتطور: نعم، العلم نور، ولكن ابدا ليس للاخلاق
...
-
لماذا(العلمانية) نجحت في اوربا، و(استحالت) في العالمين العرب
...
-
الى كهنة وشيوخ الحداثة الليبرالية، اليسارية: الديمقراطية وال
...
-
الاديان العالمية، والجدالات التشكيكية بوجود مؤسسيها وكتبها ا
...
-
الى المتشككين بتاريخ الاسلام الاول وكتابه ونبيه، نعم هذا من
...
-
الاسلام والعربية، ليسا فقط نتاج السماء والصحراء، قدرما نتاج
...
-
مشكلة التعامل مع زعماء تاريخنا: الخليفة معاوية، مثالا!
-
ويكيبيديا(النسخة العربية)، والتشويه (العنصري الكردي) للتاريخ
...
-
علي الوردي ودوره الخطير في نشر(العنصرية الذاتية) واحتقار الع
...
-
ها هو الانقسام الجديد والتاريخي الكبير في الثقافة الغربية، ب
...
-
حول مطالبة قادة الاقليم ب(الكونفدرالية) بدلا من ( الفدرالية)
...
-
(اكراد النهرين): العراق وسوريا، ومراحل تاريخهم الخمس، منذ ال
...
-
أكراد العراق وسوريا، واصولهم المشتركة مع سكان البلدين منذ فج
...
-
روسيا، البعبع الدائم لاوربا الغربية: الاسباب الجغرافية والتا
...
-
أسرار الحياة والوجود بين (العلمويين) و(الروحانيين)؟!
-
النقلات التأسيسية الكبرى في تاريخ الدولة العراقية!
المزيد.....
-
العفو الرئاسي.. هل يستطيع ترامب أن ينقذ نفسه من المحاكمات؟
-
ليبيا تطالب بإلزام إسرائيل بوقف الحرب على فلسطين ولبنان
-
عندما تغني المكسيك.. ألف عازف مارياتشي في مشهد تاريخي
-
مقتل 6 أشخاص وإصابة أطفال في غارات ليلية روسية على ميكولايف
...
-
شبح انسحاب ترامب من اتفاق باريس للمناخ يُخيم على -كوب29-
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في خاركوف والقضاء على 1
...
-
إرسال رائد فضاء هندي بصاروخ أمريكي إلى المحطة الدولية عام 20
...
-
سيئول: بيونغ يانغ أطلقت صاروخ -هواسونغ-19- دون اختبار محرك ج
...
-
-حزب الله- يعلن استهداف تجمعات للجيش الإسرائيلي
-
600 مليار دولار بدون معسكرات اعتقال.. ترامب يسمي حارس-حدود
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|