أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود يعقوب - نهر الذكريات الأصفر، المتدفّق في رواية أمير ناصر















المزيد.....


نهر الذكريات الأصفر، المتدفّق في رواية أمير ناصر


محمود يعقوب

الحوار المتمدن-العدد: 8241 - 2025 / 2 / 2 - 23:54
المحور: الادب والفن
    


نهر الذكريات الأصفر، المتدفّق في رواية أمير ناصر ( شريط ورقي أصفر ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قبل أن أستهلّ قراءتي في رواية الأديب أمير ناصر ، أودّ أن أبادر لجذب الاهتمام إلى رمزية ودلالات اللون الأصفر ، الذي تصطبغ به هذه الرواية . حيث ينطوي اللون الأصفر على رموز معقّدة ، ومتضاربة في آن واحد ، تتراوح بين الإيحاءات الإيجابية والسلبية معاً ؛ ففي الوقت الذي يرمز فيه إلى الخطر والغيرة والخوف والمرض عند البعض ، نراه في العديد من الثقافات العالمية بوصفه اللون الأكثر رقّة بين جميع الألوان ، وأنه لون الجمال والاعتدال ، الذي يرث فضيلة السماوات بما تنطوي عليه من نقاء وبهاء . في طفولة كل امرئ ثمة ألوان جذّابة لا تنسى ، تنطبع في ذاكرته وتبقى متوهّجة بشعلتها المبهجة ، لا تبرح ذاكرته ، ولا يسعى إلى نسيانها . والألوان جملة ، في تقديري ، أعمق غوراً في نفس الطفل ، وروحه ، وذاكرته ، أكثر من أي شخص آخر .
ᵜᵜᵜᵜᵜᵜ
( شريط ورقي أصفر ) ، رواية سيرة شخصية ، ابتدر فيها الشاعر أمير ناصر مسيرته في السرد الروائي . وقد أحسن الكاتب في اصطفاء هذا النمط السردي في الكتابة دون سواه . فالسيرة الشخصية نوع أدبي مميّز ، تاريخي وقديم . أحبها القرّاء دائماً . وفي الأدب الحديث ، احتلّت رواية السيرة مساحة بيّنـة في أدب السرد النثري . السيرة الشخصية في الأدب ، هي تقدير للحياة ، ولها قيمة جمالية عالية . إن الوظائف التذكارية والتعليمية للسيرة الشخصية تمكّن من التواصل المباشر بين الموضوع والقارئ ، حيث يكون بمقدور القارئ أن يرى نفسه والمجتمع من خلال الموضوع ، وبالتالي يعمق فهمه للواقع الحياتي .
ينبغي أن يكون لدى كاتب السيرة الشخصية أيديولوجية واضحة ، وفهماً كاملاً للموضوع . هناك ثلاثة أنواع من المعرفة المهنية التي يحتاج كتّـاب السيرة الشخصية إلى إتقانها سلفاً ، وهي : التاريخ ، والأدب ، وعلم النفس . السيرة الشخصية يجب أن تتمتّع بأصالة ودقّة البحث التاريخي ، وحيوية الصورة الأدبية ، ودقّة وعمق علم النفس .، ومن بين ذلك تكون الأصالة هي العنصر الأهم في كتابة السيرة ، والأصالة التي أعنيها هنا هي على عكس الإدعاء تماماً .
إن حيوية السيرة تكمن في صدقها وقدرتها على عكس صورة الأشخاص الحقيقيين ، خلافاً لأنماط الأدب الأخرى التي تعتمد الخيال والتهويل . إن الكتابة التاريخية للسيرة الشخصية ، وحتّى الأدبية منها لا تسمح للخيال بتشويهها ، ولا تفسح المجال للافتراضات . إن الخيال هو فخ في السيرة التي نتحدّث عنها هنا على وجه التحديد ، لأن الأدب المعاصر يشهد أيضاً كتابة بعض السيًر الافتراضية ، التي تتشبّث بالخيال جملة وتفصيلا . إن أعظم ثناء في كتابة السيرة الشخصية هو صدقها ، واعتبارها تاريخاً لشخص ما . وحينما يشوّه الخيال ، عن قصد أو غير قصد ، الأحداث والتفاصيل الفردية سوف يجعل الناس يشعرون بالخداع ويخلق التأثير المعاكس تماماً . يتحتّم على السيرة الشخصية أولاً أن تختار وتصف بوعي الأحداث التي تعكس بشكل أفضل الجوهر الروحي للموضوع ، في مثل هذه الحال ينبغي على الأسلوب أن يدور حول صحة تصوير الشخصية ، وأن تكون هنالك حدوداً معيّنة ومعقولة لأفق الخيال .
ᵜᵜᵜᵜᵜ
رواية ( شريط ورقي أصفر ) تسرد فصولاً من حياة الكاتب أمير ناصر « تلك هي حياتي كتبتها بحدود ٢٦٠٠٠ ألف كلمة وسأنقلها إلى ذاكرة بحجم أنملة ... وهي الآن على طاولة الكتابة قرب بقايا الشريط الورقي الأصفر » . لم تعوّل هذه الذكريات على مدونات أو ما شابه ذلك ممّا يمكن أن يكون في حوزة المؤلف ، بل هي تتّكل بصورة أساسية على حجم ذكرياته البعيدة منها والقريبة ، لا سيّما ذكريات الطفولة .
إن ذكريات الطفولة التي تفلت من العقل ، تذهب لتترسّب في اللاوعي ، ثم ما تلبث أن تعود بقوّة كرّة أخرى ، لتطفح في الذهن ، عندما يتعثّر بها شيء ما بشكل غير متوقّع .
رواية أمير ناصر ، على الرغم من تعدّد موضوعاتها وثيمها ، مكرّسة بشكل عام لتكريم الأم في أعقاب رحيلها عن الحياة . كان يريد أن يكتب لأمه شيئاً ، وقد فعل ذلك . إن تكريم الأم في كتابة شيء عنها هو عمل مبارك ، وأسلوب محمود في مشاركتها العواطف الحميمية الصادقة . تلك الأم التي على الرغم من رحيلها ، تظل ترشد ابنها الحبيب في متاهات ظلمة الحياة بنور سراجها الذي لا ينطفئ . وفي كل مرّة كان يضحك فيها ، تضحك هي الأخرى ، وفي كل مرّة كان يبكي فيها ، تسرع لتمدّ أناملها ، وتمسح دموعه ، وفي كل مرّة يكبو فيها ، تجثم فوقه ، وتساعده على النهوض . ولكن على الرغم من حضورها الدائم ، بكونها ساكنة في أعماق القلب ، إلّا أن جرح رحيلها الحقيقي يبقى نازفاً .
عندما وارى أمير ناصر والدته الثرى ، لم تستكن روحه الرقيقة ، ولم تهدأ ، إنّما ظلّت أسيرة الآلام والهموم التي ما انفكّت تداهمه المرّة تلو الأخرى ، بشكل محسوس أو غير محسوس ، وفي كلا الأمرين تترك أثرها المبرح الذي لا يزول . وعلى مدار الرواية نجد أن نفسه تتصارع بين هذا الرحيل الحقيقي ، وبين حضورها الافتراضي الدائم في كل مفاصل حياته . ولذل بقيت أفكاره وخواطره متشظية بين الموت والحياة ، وبين الغم والفرح . في كثير من أوراق روايته كان يحاول أن ينقل رسالة إلى أمه بأنه لم يزل متمسّكاً بتعاليمها ووصاياها ، وإنه لم يزل يعيش على نحو جيد . « اهديني دعاءً لأمي ، قولي لها : إن ابنك يحبك ولن ينساك أبداً ولا يقترب من أي شيء يسبّب له الأذى » . هو يتوسّل إليها بنداءات حارقة ، بينما تطفح روحه بالأسى حتّى لتفيض بالدمع . وحينما يزور قبرها يشعر بأنها بذرة أودعها التربة الطاهرة ، فيروح يسقيها الماء القراح ، على أمل أن تنبت في ظل سحابة من البخور القدسي . « حقّاً لو قُدّر لأمي أن تنبت في المقبرة فأي شجرة ستكون ؟ ... ربما ستكون نخلة باسقة يتدلّى من حول سعفها التمر » .
إن أثر الفقد الغائر يبقى دفيناً في أعماق النفس ، ومن مكمنه تنبعث الأشجان والغصص ، فتترك على شخصه طابع الوحدة والوجوم ، ليعيش منطوياً ولا يختار لنفسه سوى قلة قليلة من الأصدقاء ، وهذا ما يفسّر لنا قلّة شخصيات روايته الذين يُعَدون على عدد أصابع الكف الواحدة ، ولكنهم شخوص يسهل الركون إليهم والتفاعل معهم بصدق ومودّة . إن كل ما يمتّ لوالدته بصلة ، صار يكتسب أهمية قصوى بالنسبة له . يخبرنا دوستويفسكي قائلاً : ( إن الذكريات سواء أكانت ممتعة أم مؤلمة ، لتسبّب للمرء دائماً المعاناة ، هذا على الأقل هو الانطباع الذي أشعر به ، لكن ثمة كذلك بعض العذوبة التي يشعر بها المرء في تلك المعاناة ، وحين ينوء القلب تحت ثقل التعاسة ، أو المرض ، أو الحزن ، فإن تلك الذكريات سرعان ما تنعشه ، تحييه من جديد ) .
تبدو أوراق السرد القصيرة ، المتفاوتة في أفراحها وأحزانها ، ورضاها وغضبها ، أشبه بقصاصات الشريط الورقي الأصفر ، بل أنه يرتبط معها روحيّاً كذلك ؛ ذلك الشريط الذي كان الكاتب ، في طفولته ، يسعى دائماً للحصول عليه ، من أجل صنع طائرة ورقية يستمتع بتحليقها فوق أسطح المنازل . الأطفال عشّاق الطائرات الورقية ، ومنظر تحليقها في كبد السماء يشرح صدور الكبار أيضاً . إنها تثير جذب الناس إلى سحرها البديع في كل الأزمنة والعصور ، ولذلك فهي بمثابة جسر ثقافي يربط الماضي بالحاضر . إن منظر الأطفال الذين يركضون ويتصايحون ، وهم يمسكون ببكرات الخيوط ، في الوقت الذي تومض عيونهم فرحاً بمرأى تدفّق الألوان البهية لطائراتهم المحلّقة في السماء في حرية وانسيابية رائعة ؛ إن منظرهم يهزّ المشاعر حقّاً . الطائرة الورقية هي رمز للحرية ، والأحلام ، والأمل . تطير الطائرة الورقية في السماء وترتفع في يسر بمساعدة الريح ، على الرغم من أن الخيط يُمسك بقوّة في يد الشخص الذي يتحكّم بها وفي حركتها . هذا التوازن بين الحرية والسيطرة يرمز إلى حالة الحياة . والكاتب يحمل طيف طائرته الورقية في رحلة حياته ، وفي حلّه وترحاله ، حتّى أثناء زيارته إلى قرية أجداده : « سماء القرى واسعة وأمينة ، وهي صالحة أكثر من سواها للطائرات الورقية » .
يستخدم الكاتب تجربته الحياتية للحديث العديد من الثيم الشائعة في الرواية الحديثة ، وفي مقدمتها الهم الوجودي الإنساني ، والعلاقة الجدلية بين الحياة والموت ، وحيرة الإنسان بينهما ، وهو يمنح أيضاً عنايته للحب والجمال ، وتذوّق مظاهر الفن أينما تتجلّى صوره . وفي تعبيره عن هذه الثيم والأفكار ، يلجأ الكاتب إلى استخدام أسلوب مبسّط قوامه الجملة القصصية النحيلة ، غير المثقلة بالوصف الفضفاض ، والبعيدة كل البعد عن التكلّف ، وهنا أريد أن أوضح بأن أفضل السِيَر الشخصية التي يتم كتابتها في الأدب الحديث هي ما تُكتب بطريقة تلقائية أقرب إلى العفوية ، بتلك الطريقة التي يكتب فيها الياباني الشهير هوراكي موراكامي تفاصيل حياته ويعمد إلى تدوينها من دون تخطيط مسبق ، وهذه الطريقة أبدع فيها أيضاً الأمريكي جاك كرواك ، ونظيره تشارلز بوكوفسكي . إن العفوية في الكتابة ، تجعلها نابعة من القلب ، ويسهل عليها الولوج إلى قلب القارئ أيضاً .
لقد فقد فن الرواية ، في السنوات الأخيرة ، الكثير من شعبيته ، لأنه أُغرق في الخيال إغراقاً مبالغاً فيه ، بينما تقدّم فن السيرة الشخصية بخطى وثّابة إلى الأمام ، لما يتمتّع به من صدق ، وأصالة ، وتلقائية في الكتابة ، بعيداً عن التهويل والمبالغة الفجّة ، مع إقرارنا الثابت بأن فن الرواية عموماً هو فن الخيال الراقي ، ولكن مستويات القراءة تختلف لدى القرّاء بالطبع ، وهي التي تحدّد عندهم أفضليات الاختيار والتمييز في مآل الأمر .
( شريط ورقي أصفر ) ، فرصة أمير ناصر الأولى الطيبة ، التي يمكنها أن تمهّد الطريق إزاء محاولات أدبية لاحقة ، نأمل فيها أن يواصل القلم المتأهب للكاتب مسيرته في السرد .



#محمود_يعقوب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أيّ حياة حياتك يا ( ديلان بارتي ) !
- محاطون بالشمس ، وعندنا قمر
- الإبداع الجغرافي في قصص جاك لندن
- آيسبيرج سليم ( ١٩١٨ ١٩& ...
- الخيال الحضري وأدب الشوارع
- فضاء السجن في رواية لا رياح ولا مطر لمحمود يعقوب
- كوبو آبي في رواية ( المعلّب )
- ( جواد طليق في سهوب الشعر ) مع الشاعر العراقي الخلّاق جواد غ ...
- محاسن الذكريات في النص السردي رواية - الطريق الذاهب شرقا - ل ...
- ( أتفهمني ؟ ) ـ قصة قصيرة
- حاملة الرسالة ــ قصة قصيرة
- قراءة كاثوليكية لرواية ( الأبله الرائع ) .
- عبد الرزاق قرنح ، الذهب الأسود
- دانيال خارمس ـ عبقري الهذيان . محمود يعقوب
- حكاية هاروكي موراكامي مع جائزة نوبل
- ( مِستَر 5 ٪ ) قصة قصيرة محمود يعقوب
- الساموراي والمثلية الجنسية محمود يعقوب .
- من طعن - ابن المقفّع - ، كليلة أم دمنة ؟ قصة قصيرة محمود يعق ...
- هاروكي موراكامي في مذكرات أسفاره . محمود يعقوب
- أن تقرأ ( الأمريكي القبيح ) في العراق . قصة قصيرة


المزيد.....




- التشدد في ليبيا.. قمع موسيقى الراب والمهرجانات والرقص!
- التلاعب بالرأي العام - مسرحية ترامبية كلاسيكية
- بيت المدى يؤبن شيخ المخرجين السينمائيين العراقيين محمد شكري ...
- مصر.. الحكم بحبس مخرج شهير شهرين
- مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي بتهم -الاعتداء والسب-
- مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي شهرين لهذا السبب
- الكويت توزع جوائز الدولة وتحتفي باختيارها عاصمة للثقافة العر ...
- حتى المواطنون يفشلون فيها.. اختبارات اللغة الفرنسية تهدد 60 ...
- محاضرة في جامعة القدس للبروفيسور رياض إغبارية حول الموسيقى و ...
- سلطنة عمان تشارك في حفل انطلاق فعاليات مهرجان الكويت عاصمة ا ...


المزيد.....

- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود يعقوب - نهر الذكريات الأصفر، المتدفّق في رواية أمير ناصر