أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي الدين ابراهيم - بابلو نيرودا: الكلمة التي حملت سرّ النار














المزيد.....


بابلو نيرودا: الكلمة التي حملت سرّ النار


محيي الدين ابراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 8277 - 2025 / 3 / 10 - 03:13
المحور: الادب والفن
    


في السابع من يوليو عام 1904، وُلِد في الجنوب الشيلي صوتٌ لم يكن مجرد شاعر، بل كان روحًا تشبه الطبيعة التي أنجبته. في الغابات البعيدة، حيث الهدوء متشحٌ بالضوء، وحيث الريح ترتل نشيدها الأبدي، تفتّح طفلٌ سيحمل هموم الأرض في كفِّ القصيدة. لم يكن اسمه بابلو نيرودا بعد، بل كان ريكاردو إليعازر نفتالي رييس إي باسوالتو، لكن الأسماء ليست سوى أقنعة، وكان القدر يخط له اسمه النهائي، الاسم الذي سيُدوَّن في سفر الخلود.
هناك، بين الأشجار العتيقة، وحيث المطر يُنبت الحروف، بدأ وعيه الأول يتشكل. وحين التقى بغابرييلا ميسترال، لم يكن مجرد تلميذٍ أمام معلمة، بل كان كوكبًا يبحث عن ضوءٍ يدله على مداره. قرأت فيه نبوءةً لم يقرأها غيرها، فأهدته الكتب كما يُهدى السر، وفتحت أمامه دربًا كان مقدَّرًا له أن يسلكه حتى النهاية.
نشيد الحب: الضوء الذي يسبق النار:
حين نشر Veinte poemas de amor y una canción desesperada ("عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة") عام 1924، لم يكن يكتب عن الحب بقدر ما كان يُعيد خلقه. لم يكن الغزل عنده وصفًا للعاطفة، بل كان تجربة كونية، انصهارًا بين الجسد والعناصر، حيث العاشق ليس فردًا، بل كائنٌ يتماهى مع البحر، مع العاصفة، مع النور والعدم. كانت قصيدته "Puedo escribir los versos más tristes esta noche" ("أستطيع أن أكتب أكثر الأبيات حزنًا هذه الليلة") نشيدًا للحب والغياب في آنٍ واحد:
"أستطيع أن أكتب أكثر الأبيات حزنًا هذه الليلة.
أحببتها، وأحيانًا كانت تحبني أيضًا.
في ليالٍ مثل هذه، كنتُ أضمها إلى صدري.
لا تزال روحي حزينة بفقدانها."
كان الحب لديه يشبه الريح التي تمرّ عبر الزمن، تترك أثرًا ولا تبقى، وكان الغياب حضورًا آخر، حضورًا أكثر كثافة، حيث الذكرى لا تموت، بل تتحول إلى قصيدةٍ تمتد عبر الأبد.
الإقامة في الأرض: الشعر كصرخة وجودية:
لكن الحب لم يكن كافيًا لملء الفجوة العميقة التي حفرها الزمن في روحه. جاءت سنوات الترحال، وجاءت الغربة كقدرٍ لا مهرب منه. في Residencia en la tierra ("الإقامة في الأرض")، لم يعد الشاعر هو الفتى الذي ينشد للحب، بل صار المتأمل في الفراغ، الصوفي الذي يطوف حول أسئلة بلا إجابة، الباحث عن الحقيقة في كونٍ لا يمنح اليقين. كتب:
"إنني لا أفهم الحياة، ولكنني أكتبها.
إنني لا أملك الحقيقة، ولكنني أنطق بها.
إنني لا أبحث عن النور، ولكنني أحترق فيه."
كان الشعر عنده طريقًا للخلاص، لكنه أيضًا طريقٌ للتيه، حيث الكلمات ليست حلولًا، بل أسئلة متناسلة، وحيث العالم كيانٌ غامضٌ لا يُفهم إلا بالشعور، لا بالعقل.
الأغنية العامة: حين يصبح الشعر سيفًا:
لكن نيرودا لم يكن ليستطيع الوقوف عند التأمل. عندما اندلعت الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936، أدرك أن الشاعر لا يمكنه أن يكون محايدًا، فترك صومعته الفكرية، وانخرط في النضال بالكلمة. كتب España en el corazón ("إسبانيا في القلب")، ثم جاءت ملحمته الكبرى Canto General ("الأغنية العامة") عام 1950، حيث لم تعد القصيدة أغنيةً شخصية، بل صارت وثيقةً تاريخية، صارت صوتًا للأمم المنهوبة، للعمال الذين بنوا المدن العظيمة ولم يُكتبوا في كتب الملوك، للدماء التي سالت في صمتٍ ولم يخلّدها التاريخ. في قصيدته Alturas de Machu Picchu ("مرتفعات ماتشو بيتشو")، كان صوته يتماهى مع أصوات منسيّة:
"أنا قادم لأتحدث باسم أفواهٍ صامتة،
عبر آلاف السنين، في الخفاء، في التراب."
لم يعد الشاعر هنا مجرد متأمل، بل صار نبيًّا يحمل رسالةَ مَن لا صوت لهم، ويدافع عنهم أمام الزمن، ذلك القاضي الأعمى.
نيرودا في العالم العربي: صدى الثورة والقصيدة:
لم يكن تأثير نيرودا مقصورًا على أمريكا اللاتينية. حين تُرجم شعره إلى العربية، وجد صدًى في قلب الشعراء العرب، خصوصًا أولئك الذين حملوا على عاتقهم قضايا الحرية والعدالة. قرأه محمود درويش، ورأى فيه الأخ الأكبر للشعراء المقاومين، ووجد فيه أدونيس نموذجًا للشاعر الذي يُعيد تشكيل العالم. لم يكن نيرودا مجرد شاعرٍ عند العرب، بل كان جزءًا من معركةٍ كونية، حيث الكلمة تقف في مواجهة السيف، وحيث القصيدة ليست مجرد إبداع، بل سلاحٌ في معركة الحق.
الصعود إلى الضوء: الخاتمة التي لا تنتهي:
في عام 1971، توّج نيرودا مسيرته بنيله جائزة نوبل للآداب، لكنه لم يفرح بها طويلًا. في 23 سبتمبر 1973، رحل عن العالم بعد أيامٍ فقط من الانقلاب العسكري الذي أطاح بصديقه الرئيس سلفادور أليندي. لكن موته لم يكن نهاية، بل كان امتدادًا، فقصائده ظلت نارًا لا تنطفئ، نشيدًا ممتدًا في الذاكرة، حيث الحب والمقاومة متعانقان إلى الأبد.
قال في خطابه عند استلام نوبل:
"كل الطرق تؤدي إلى الهدف ذاته: أن ننقل للآخرين ما نحن عليه."
وهكذا، كان نيرودا القصيدة ذاتها، وكان موته مجرد فاصلةٍ في جملةٍ لم تكتمل. لم يكن مجرد شاعرٍ كتب عن الحياة، بل كان الحياة وقد تحوّلت إلى كلمات، وكان الصوت الذي حمل سرّ النار، وبقي مشتعلاً، حتى بعد أن صار جسده ترابًا.



#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين الفلسفة والتصوف والعلم: هل آن الأوان للثورة الفكرية الجد ...
- محمود ياسين صوت مصر ونجمها الذي أحبته
- -مسرح رمسيس- وقيمة الفنان في الشرق
- مسرحية لحظة حب على قاعة صلاح جاهين بمسرح البالون في مصر
- نظرة على تاريخ المسرح العربي في مصر
- نساء في حياة سيد درويش
- ثورة الفلاحين في قرية -بهوت- هي من صنعت صلاح جاهين !
- فولتير يعلن تفاؤله على خشبة المسرح القومي بمصر
- مهرجان المسرح التجريبي 2020 الدورة السابعة والعشرون - تغطية ...
- هل سيكون ( لقاح ) كورونا وسيلة لإختراق دماغ البشر والتحكم بأ ...
- قراءة قصيرة في كتاب -مسرح الشعب- للدكتور -علي الراعي-
- الإنسانية .. العدالة .. الحرية ( من القصص السياسي )
- بهائم العمدة .. ( من القصص السياسي )
- سيدنا عاشور .. ( من القصص السياسي )
- عشق الخالدين ( رومانسية سياسية ليست من وحي الخيال )
- الأراجوز - من القصص السياسي
- فيلم شيء من الخوف أم .. الخوف كله ؟؟
- مصادر وتاريخ الموسيقى العربية
- قصة فيلم الزوجة الثانية
- على هامش ماحدث بمصر يوم 28 يناير 2011 ( الجزء الرابع )


المزيد.....




- مستوطنون يهود يعتدون على مخرج فلسطيني مشارك في فيلم «لا أرض ...
- مستوطنون يعتدون عل مخرج الفيلم الفلسطيني -لا أرض أخرى-
- أبو زهري: جرائم الاحتلال في غزة ترجمة لتهديدات ترامب
- مستوطنون يعتدون على مخرج فيلم -لا أرض أخرى- واعتقاله داخل سي ...
- مستوطنون يعتدون على المخرج الفلسطيني الحائز على جائزة الأوسك ...
- فنان من الموصل يحول الجلود إلى لوحات تشكيلية
- مصر.. خلاف -طارئ- بين ياسمين صبري ومحمد رمضان يثير تفاعلا وا ...
- دينزل واشنطن يحطم رقمًا قياسيًا على مسارح برودواي بمسرحية -ع ...
- -فاشل وممثل درجة ثانية-.. ترامب يشن هجوما لاذعا على نجم هولي ...
- فرنسا: انطلاق أولى جلسات محاكمة الممثل دوبارديو بتهمة الاعتد ...


المزيد.....

- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي الدين ابراهيم - بابلو نيرودا: الكلمة التي حملت سرّ النار