|
حدود العقل
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 8279 - 2025 / 3 / 12 - 12:32
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
274- أركيولوجيا العدم العدمية الثورية 22 - حدود العقل
كانط توصل إلى تقبل إمكانية وجود، وبالتالي معرفة، كينونة أولية أو أصلية être originaire بواسطة التفكير العقلي المباشر. غير أن هذه الكينونة الأصلية هي موجود متعال ولا يمكن تكوين فكرة واضحة عنه ولا تحديد حقيقته وصفاته بواسطة هذه الآلة العقلية. ومع ذلك فإن كانط لا يرى أي سبب يمنع من تسمية هذه الكينونة المتعالية بـ"الله" وإعتبارها أساسا لبناء نظام أخلاقي عملي. أما "المؤمن" الذي يرى أنه بواسطة العقل يمكن أن يحدد بدقة متناهية موضوع ما يسمى باللاهوت الطبيعي، ويسميه أيضا بإسم "الله" الحي والمتعين، فإنه يستعين بالطبيعة وملاحظاته لظواهرها المتعددة والتي في رأيه تسبّح لهذه الكينونة المتواجدة حقا في كل مكان وزمان، ويستدل بها على وجود هذا الكائن الخالق والمبدع لكل ما هو كائن. بطبيعة الحال فإن صاحبنا جاكوبي لا يمكنه أن يتقبل فكرة وجود إلهين مختلفين إلى هذه الدرجة، فيتهم كانط بتهربه من تهمة الإلحاد وذلك بالتستر وراء ضبابية "الإله المتعالي" الذي لا يحتاج إلى الدين لمعرفته والوصول إليه، بل إن حتى هذا الإله الغائم لا ينجو من مطرقة كانط النقدية، فيفرغه من معناه الروحي والميتافيزيقي بواسطة فكرة "اللامتناهي". لقد تم شرح نظرية المعرفة عند كانط على وجه الخصوص في كتابه الكبير نقد العقل الخالص Critique de la raison pure. إن نقطة البداية لهذا التأمل هي، باعتراف إيمانويل كانط نفسه، الشكوكية التجريبية التي كان يتبناها دافيد هيوم Hume، والتي أيقظته من "نومه العقائدي". في الواقع، قام هيوم ببناء نقد جذري لأسس الميتافيزيقا التي وضعها لايبنتز Leibniz، والتي كان كانط أحد أتباعها في بداية حياته الفلسفية. "منذ محاولات لوك Locke ولايبنتز، أو بشكل أكثر دقة منذ ولادة الميتافيزيقا لم يحدث في المجال الفلسفي حدث أكثر حسماً فيما يتصل بمصير هذا العلم من هجوم ديفيد هيوم عليه"، كما يقول كانط في "المقدمة". إن عنوان هذا العمل نفسه يفسر مشروع كانط، مسألة إعادة تأسيس الميتافيزيقا على أسس عقلية متينة بعد هيوم، وجعلها علمًا صارمًا، من خلال تبني مثال الثورة الكوبرنيكية. فكما أظهر كوبرنيكوس Copernic أن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس، يؤكد كانط أن "مركز" المعرفة هو الذات العارفة (الإنسان أو الكائن العاقل)، وليس واقعًا خارجيًا نكون في علاقته بنا - وعلاقتنا به متلقين سلبيين لا غير. إن الموضوع لم يعد هو الذي يُلزم الذات بالامتثال لقواعده، بل الذات هي التي تعطي قواعدها للموضوع من أجل أن تعرفه وتحيط به. وهذا له نتيجة مباشرة جديدة وهي أننا لا نستطيع أن نعرف الواقع في حد ذاته (النومينال - nouménale)، ولكن فقط الواقع كما يظهر لنا في شكل الظاهرة phénomène. إن نقد كانط هو إذا محاولة للتغلب على التعارض بين "التعصب الدوغماتي"، أو المثالية، وبين "التشكك"، الذي تمثله التجريبية الهيومية. يمكن إعتبار كانط أول فيلسوف لا يرفض الميتافيزيقا التقليدية فحسب، بل ويفهم أيضًا عمله الفلسفي باعتباره إعادة تأسيس للميتافيزيقا. إن هذه الإعادة هي في نفس الوقت تعيين حدود للفهم الإنساني، حيث يضع خطاً فاصلاً بين ما هو في متناول العقل البشري وما هو خارجه، وبالتالي يجعل من الممكن التمييز بين العلم من ناحية، وبين ما هو مسألة اعتقاد ذاتي ونسبي من ناحية أخرى. وبالتالي، فإن أي بيان يدعي صياغة "حقيقة" معينة عن "الله" يُوصف بأنه "عقائدي أو دوغماتي": وبالتالي فإن المشروع ذاته لأي لاهوت عقلاني، في شكله الكلاسيكي، الذي يتمثل على سبيل المثال فيما يسمى بـ "أدلة وجود الله"، يصبح باطلاً من الناحية العلمية. وفي نفس الوقت، فإن أي دعوة إلحادية تسعى إلى الاعتماد على العلم والمنطق لتأكيد عدم وجود الله تندرج أيضًا في جانب الإيمان الدوغماتي اللاعقلي. وكل هذه الأسئلة، التي تتعلق بالأفكار المتعالية مثل الله والروح والخلود والخلق .. إلخ، لا يمكن أن تصبح موضوعًا لمعرفتنا التي تعتمد دائمًا على استقبال الحواس المقترنة مع عفوية الفهم. ولهذا السبب كتب كانط في مقدمة الطبعة الثانية من نقد العقل الخالص: "كان علي أن ألغي المعرفة حتى أترك مكانا للإيمان". لقد أراد كانط الحد من ادعاءات العقل من خلال الكشف عن الأوهام المتعالية، حيث يجب على العقل أن يتعلم أن بعض الأسئلة تقع خارج نطاق قدراته، وبالتالي يتعين أن نتولى نقد العقل بواسطة العقل ذاته وهو المعنى الحقيقي لعنوان "نقد العقل المحض". هذا اللاهوت المتعالي الذي يقدمه كانط، بجانب فلسفته النقدية الصارمة، ليس جديدا على الفلسفة، والتفرقة بين الـ "déisme" والـ"théisme" التي ناقشناها سابقا كانت متواردة وحاضرة عند أغلب فلاسفة التنوير في فرنسا، عند ديدرو وفولتير وجان جاك روسو وغيرهم. غير أن جاكوبي يرى أن اللاهوت الكانطي أسوأ بكثير ويذهب أبعد مما ذهب إليه لاهوت التنوير، إن صح هذا التعبير. لأن هذا اللاهوت الأخير كان قد فرّغ فكرة "الله" من محتواها الديني والإعتقادي، ليعطي لله محتوى عقليا، بينما كانط حاول أن يفرغ الإيمان ذاته من محتواه الروحي ويختزل "الله" في تحديدات محتملة لا متناهية وفارغة. فلاسفة التنوير أنتقدوا فكرة الوجود الحقيقي لله "الحي" قبل كانط بزمن طويل، ولم يتقبلوا سوى "شبح" هذا الإله في شكل مفهوم أو تصور concept نظري مجرد. وجاكوبي يعتبر كل هؤلاء الفلاسفة ملاحدة، ويتهم كانط بدوره بالمساهمة في سقوط الله المسيحي وفقدانه لشرعيته التاريخية والروحية وإنتصار الإلحاد .. مقنعا فلسفته الإلحادية في غلاف ما يسميه بـ "اللاهوت المتعالي". وإذا كنا قد أسهبنا قليلا في الحديث عن كانط، رغم أن لب الموضوع هو جاكوبي، فذلك راجع إلى هذه العلاقة الغريبة بين الفيلسوفين والنتائج الخطيرة لهذه العلاقة بخصوص الموضوع الذي نعالجه وهو جذور العدمية.
يتبع
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العلم والجهل والذكاء
-
اليوم العالمي للدفاع عن حقوق النساء
-
عن الشعر والملل
-
إشكالية الإيمان عند كانط
-
الشوكولاطة وجنية البحر
-
عن الغربة والإستلاب
-
عن الثورة والندم
-
التضخم في التقنين
-
عدمية كانط
-
جاكوبي ضد كانط
-
الله والطبيعة ووحدة الوجود
-
شبح سبينوزا
-
صلاح الدين وناثان الحكيم
-
الخاتم السحري
-
الدين وعصر التنوير
-
جاكوبي ومحاولة تحطيم العقل
-
صدق المنجمون ولو كذبوا
-
ظاهرة الشخص الزائد
-
والتر بنيامين والزمن المتراخي
-
غرزة بودلير وشلته
المزيد.....
-
تصعيد إسرائيلي في غزة ولبنان.. وتحركات دبلوماسية لاحتواء الت
...
-
جرحى في 12 غارة أميركية جديدة على صعدة شمال اليمن
-
الجزيرة تدين اغتيال الاحتلال حسام شبات مراسل الجزيرة مباشر ب
...
-
عاجل | بوليتيكو عن مسؤول أميركي: مساعدان رفيعا المستوى في ال
...
-
انتهاء محادثات الرياض بين روسيا وأميركا.. وبيان خلال ساعات
-
محكمة فرنسية تنظر في صلاحية مذكرة توقيف بحق الأسد
-
أردوغان يصف المحتجين بـ -إرهابيي الشوارع-
-
خلافات وسرية غائبة.. ماذا كشفت تسريبات البيت الأبيض؟
-
الإمارات تعلن التصدي لهجمات سيبرانية استهدفت مئات الجهات الح
...
-
مسؤول أمريكي: نشهد تقدما في محادثات الرياض حول أوكرانيا
المزيد.....
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
المزيد.....
|