|
المثالية الألمانية
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 8311 - 2025 / 4 / 13 - 20:58
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
276- أركيولوجيا العدم العدمية الثورية 24 - المثالية الألمانية
بطبيعة الحال، جاكوبي كان مفكرا عنيدا ولم يسلم بعد كل أسلحته النقدية وأنتظر حتى ظهور ما يسمى بنزاع الإلحاد « Querelle de l’athéisme » أو معركة الإلحاد Atheismusstreit، التي شملت الفترة من عام 1798 إلى عام 1800، واتهام فيخته Fichte، الذي كان أستاذا يدرس في جامعة يينا Iéna آنذاك، بالإلحاد وإجباره على الاستقالة من كرسيه للفلسفة في 5 نوفمبر عام 1799. ويبدو أن فيشته يربط الله بالنظام الأخلاقي للعالم ويعطيه صورة مجردة تجعل من الله كائنا يفتقد الوجود الموضوعي لكينونته (Sein). ويرى معارضوه أن هذه الفكرة لا يمكن تسميتها إلا بالإلحاد. يوهان جوتليب فيشته، 1762-1814 الفيلسوف الألماني كان يؤرقه السؤال القديم: هل العالم موجود خارج فكرتي عنه، أم أنه يحتاج إلى وجودي على هذا النحو؟ هذا هو السؤال المركزي الذي يحرك فيخته، المفكر الصعب والذي يربط بطريقة ما بين كانط وهيجل وأن يكون حلقة الوصل بينهما. يضع فيشته على عاتقه مهمة إظهار الوحدة الأصلية للذات العارفة sujet connaissant (الفلسفة النظرية) والذات الفاعلة sujet agissant (الفلسفة العملية). ولتحقيق هذه الغاية، أسس مدرسة فكرية جديدة، هي المثالية الألمانية، التي يشكل كتابه "عقيدة العلوم" (1794) Doctrine de la science، وهو العمل الوحيد الذي نُشر أثناء حياته، ذروة هذه المدرسة. وقبل مواصلة الحديث عن فيخته، ربما يجب إلقاء نظرة سريعة على الفلسفة المثالية الألمانية في بداية القرن التاسع عشر. المثالية الألمانية هي إحدى الحركات الفلسفية الأساسية في القرن التاسع عشر وتقدم تأملاً عميقاً حول طبيعة الواقع، وذاتية الوعي، والدور النشط للذات في بناء العالم. إن هذه الحركة التي تستمد جذورها من التراث الكانطي، تطورت في سياق تاريخي وثقافي خاص بألمانيا بعد الثورة الفرنسية، حيث امتزجت الحيوية الفكرية بالاضطرابات السياسية والاجتماعية وتغير خريطة أوروبا السياسية والإقتصادية. ولكي نفهم جوهر هذه الحركة الفلسفية، فمن الضروري استكشاف أسسها النظرية وتطورها من خلال أعمال كبار مفكريي هذه الحقبة الزمنية الغنية، مثل فيشته، شيلينج، وهيجل. يشكل الفكر الكانطي الخطوة الأساسية الأولى في هذه الحركة. لقد سلط إيمانويل كانط الضوء على الفصل بين الظاهرة كما تظهر لنا le phénomène والشيء في ذاته en soi، والذي لا يمكن الوصول إليه من خلال تجربتنا المباشرة. هذه الملاحظة التي تطرح فكرة النظام المفروض بواسطة الحساسية والفهم تشكل نقطة البداية للمثالية الألمانية. من خلال الاعتقاد بأن الذات ليست مجرد مستقبل ومتلقي سلبي للانطباعات، بل هي بالأحرى فاعل ديناميكي في تكوين الواقع، يفتح كانط الطريق أمام سلسلة من التأملات حول قدرة العقل على تمثيل العالم وتشكيله. ويذهب فيخته إلى أبعد من ذلك في هذه الفكرة من خلال جعل الذات أو الأنا العنصر المؤسس لكل الواقع. بالنسبة له، فإن نشاط "الذات" لا يفسر العالم فحسب، بل يخلقه من خلال إعطائه بنية مفهومة. إن هذه الأطروحة، بعيدًا عن كونها ادعاءً لشكل من أشكال الاستبدادية d’absolutisme، هي جزء من الرغبة في فهم كيف تمنح الأنا، من خلال أفعالها الخاصة، المعنى والنظام لواقع مشوش وفوضوي. إن الجدلية بين الذات وغير الذات أي بين الأنا واللاأنا، والتي تشكل محور تفكيره، تعكس توتراً دائماً بين الحرية الفردية والحاجة إلى وضع الذات داخل إطار عالمي، وهي الفكرة التي لا تزال تتردد اليوم في المناقشات حول الاستقلال الشخصي وبناء الهوية الفردية. ومن جانبه، يضيف شيلينج بعداً طبيعياً وجمالياً إلى هذه المشكلة. ومن خلال الاعتراف بمظهر المطلق في الطبيعة، فإنه يحاول توحيد نشاط العقل وديناميكيات العالم الطبيعي في مفهوم عضوي حي. وتؤكد فلسفته، التي تدمج مفهومي الوجود والتطور، على الترابط المتبادل بين الصيرورة والتطور، بين الذات والموضوع وبين الطبيعة والثقافة. يفتح هذا النهج آفاقًا حول كيفية مساهمة الفن والأساطير، وحتى المعتقدات الشعبية والدينية في فهم شامل للواقع. أما هيجل، الذي يعتبر بلا شك المفكر الأكثر تأثيرًا في المثالية الألمانية وفي الفلسفة عموما، فإنه يقترح تركيبًا جذريًا للأفكار السابقة من خلال تقديم الديالكتيك كأسلوب لتطوير الروح المطلقة. في فلسفته التاريخية، يرى هيجل العالم كعملية تطورية يتم فيها حل التناقضات الظاهرة إلى وحدة أعلى، مما يسمح للروح بإدراك نفسها تدريجيًا في الحرية والعقل. إن الثالوث الجدلي - الأطروحة، نقيض الأطروحة، المركب thèse, antithèse, synthèse- ليس مجرد منهج منطقي، بل هو تمثيل للواقع في تحول مستمر، حيث تكون كل لحظة من الوجود نتيجة لماضٍ يتجاوز نفسه وبذرة لمستقبل في طور التكوين. وتقدم هذه الرؤية، التي تدمج الزمن والتاريخ في بناء الواقع، إطارًا نظريًا لفهم التحولات الاجتماعية والثقافية، فضلاً عن تطور الأفكار.
كان فيخته أستاذاً في يينا ثم في برلين، وكان ينحدر من عائلة فقيرة في ساكسونيا، وكان ينوي أن يذهب إلى ما هو أبعد من التعارض المفاهيمي بين الذات sujet والموضوع objet، كما نجد، على سبيل المثال، في فلسفة كانط. وللتوفيق بين هذين المفهومين، يؤكد تفوق الذات على الموضوع، حيث يكون الأخير تابعًا لها. وفقا لفيشته، يفترض العلم أن الذات ليست مجرد وعاء مستقبل للواقع، بل هي أيضا منتج لهذا الواقع. "إذا كان عقلي قادرًا على اختراق الطبيعة، فذلك لأن هذه الأخيرة "تتشكل وفقًا لقوانين فكري الخاص ويجب أن تتفق معها". هذا لا يعني أنه خارج عقلي، تتبخر القوانين الطبيعية وتطير التفاحة في السماء بدلا من أن تسقط على رأس نيوتن، أو تتعطل القوانين الرياضية وتصبح ٢+٢=٥، ولكن عقلي فقط هو القادر على إعطاء صيغة الواقع لهذه الحقيقة. هذه الذاتية العالمية العامة هي "الأنا المطلقة" le Moi absolu. الفكرة الأساسية عند فيخته هي أن الذات المطلقة "تطرح أو تفرض نفسها"، أي أنها في نفس الوقت موضوع ومنتج كل فعل. في الوقت الذي تؤكد فيه الأنا على نفسها باعتبارها لا نهائية، فإنها تحد من نفسها: فهي تقدم "اللاأنا Non-Moi" أمامها، والتي تتفاعل معها بشكل دائم. "يجب نفي المناقض حتى يتم إنتاج الوحدة المطلقة للأنا"، كما يقول فيخته. هذه الوحدة لا تتحقق بشكل كامل أبدًا؛ إنها تتطور مع قيام الوعي بـ "تركيب" التناقضات بينه وبين العالم. وهكذا ولد الديالكتيك الحديث على يد فيخته، قبل اثني عشر عامًا من ظهور فينومينولوجيا الروح لهيجل. إذا كانت المعرفة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالحرية، فهي ليست غاية في حد ذاتها. المعرفة، قبل كل شيء، وسيلةٌ للفعل الأخلاقي: «عالمنا هو المادة التي تُحسَب فيها واجباتنا. ليس الواجب ما يجعلني حرًا كما هو الحال عند كانط، بل حريتي هي التي تُلزمني بالواجبات. غريزيًا، يدرك البشر أنهم أحرار، أو بالأحرى، ليسوا سوى رسم تخطيطي لشيء سيُفرض نفسه على هذا النحو: "أن تكون حرًا ليس شيئًا؛ أن تُصبح حرًا هو الجنة". وهكذا ننتقل من فلسفة الطاعة الكانطية إلى أخلاقيات المشروع كما صاغها فيختة. وقد وسع فيخته هذا التفكير إلى المجال السياسي، مما أدى إلى استبعاده المؤقت من الجامعة في أعقاب "جدال الإلحاد". إن الذات المطلقة لا تتعارض مع الحياة المجتمعية، بل على العكس من ذلك. إن التفاعل أو الترابط بين الناس يتحلل إلى تعدد الأفراد والذوات: "لا يصبح الإنسان إنساناً إلا بين البشر".
يتبع
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بيكيت بين العبث والعدمية
-
الجنون
-
محنة هاملت
-
النفي والإثبات وما بينهما
-
العنصرية والكزينوفوبيا
-
مسؤولية العدسة
-
الفن من أجل الفن .. !
-
ألهة الدمار
-
داغرمان ودكتاتورية الكآبة
-
حدود العقل
-
العلم والجهل والذكاء
-
اليوم العالمي للدفاع عن حقوق النساء
-
عن الشعر والملل
-
إشكالية الإيمان عند كانط
-
الشوكولاطة وجنية البحر
-
عن الغربة والإستلاب
-
عن الثورة والندم
-
التضخم في التقنين
-
عدمية كانط
-
جاكوبي ضد كانط
المزيد.....
-
زاخاروفا ترد على تصريحات زيلينسكي حول -استعادة- شبه جزيرة ال
...
-
مراسل RT: تبادل لإطلاق النار في طرابلس إثر محاولة توقيف أحد
...
-
أوكرانيا -قد تضطر- للتخلي عن أراضٍ لصالح روسيا وترامب يؤكد أ
...
-
مجلة أمريكية تطلق عدًا تنازليًا لانتهاء ولاية ترامب.. ما الق
...
-
-دون شروط- - واشنطن تفرج عن 1.3 مليار دولار مساعدات عسكرية ل
...
-
مناورات جوية واستثمارات ضخمة .. رسائل من مصر والصين لترامب؟
...
-
ترامب: ويتكوف عقد -اجتماعا جيدا- في الكرملين
-
ترامب: تحدثت مع نتنياهو وطلبت منه -الترفق- بقطاع غزة
-
مستشار الخارجية الأمريكية الأسبق: زيلينسكي لن يغتنم فرصة الس
...
-
-جيش- من البعوض يغزو طائرة بأكملها! (فيديوهات)
المزيد.....
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
المزيد.....
|