|
العلاج بالتقبّل والالتزام و-طيور القَلق-
حسام كناعنة
الحوار المتمدن-العدد: 8337 - 2025 / 5 / 9 - 07:54
المحور:
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
"لا يمكنك منع طيور اللّقلق من التحليق فوق رأسك، لكنك تستطيع منعها من بناء أعشاش فيها". (مثل صيني).
مثلما لا تستطيع أن تمنعَ الطيور من التحليق في السماء، فهكذا لا تستطيع منعَ الأفكار السلبية (والمشاعر المؤلمة) والهواجس والهموم من الظهور (حيثُ إنّها شيء طبيعي من العقل البشري)، فهي تأتي وتذهب كما تشاء ("لحظة وعي تأتي كضيف غير متوقّع" في قصيدة بيت الضيافة لابن الرومي)؛ لكنك تستطيع منع هذه الأفكار من الاستقرار، مثلما تمنع الطيور من بناء أعشاشها، ويمكنك اختيار عدم التركيز عليها أو عدم تضخيمها، وبإمكانك منعها من أن تصبح معتقدات راسخة أو مشاعر دائمة. قد يكون من المفيد التذكير هنا بأنّ هذا هو جوهر "العلاج بالتقبل وبالالتزام"، (Acceptance and Commitment Therapy – ACT)؛ فبدلًا من تغيير محتوى الأفكار والمشاعر غيّر علاقتك بها. بكلمات أخرى، إنّ العلاج بالتقبّل والالتزام يقول: لا تحاول تغيير محتوى أفكارك وعواطفك وذكرياتك السلبية، لانها لن تتركك، كما تفعل الطيور التي تحلّق فوق رأسك، مع أنّها يمكن أن تتركك لفترة زمنية وجيزة، سواء تصرّفت معها عن طريق قمعها أو تجنّبها بمختلف وسائل الإلهاء، لكنّها سرعان ما تعود بشكل غير مجدي وغير عملي ومُعيق.
وعليه، بدلًا من المحاولة غير المجدية، غيّر علاقتك بها، بأفكارِك السلبية وبمشاعرك المؤلمة، واستمر في فعل ما يُهمّك، وما هو مُجدٍ، وستعيش حياة ذات معنى، حياة هادفة. أنت لست مُطالبًا بأن تحبّها، فقط افسح لها ولا تضيّق عليها حتى لا تضيّق عليك حياتك، لاحظها وراقبها بفضول وعن بعد، فستكتشف أنّها ليست اكثر من مجرّد كلمات، وأحرف، وصور، لا غير. من الجدير ذكره هنا هو أنّ العلاج بالتقبّل والالتزام (ACT) يُساعدنا على التعامل مع "العواصف الانفعالية"، من أفكار سلبية ومشاعر مؤلمة، حيث إنّه يؤمن بأن المعاناة هي جزء من التجربة الإنسانية، وبأنّ محاولة الهروب من هذه التجربة أو تجنّبها يزيد من معاناتنا ويفاقم وضعنا سوءًا. يرى هذا النّهج العلاجي أنّ مواجهة الأفكار السلبية ومحاولة تغيير المشاعر المؤلمة بأخرى إيجابية هي، في كثير من الأحيان، عملية غير فعّالة ولا جدوى منها. كما يؤكّد على أنّه كلما حاول الفرد نسيان تجاربه السلبية والمؤلمة، عادت له باستمرار، لأن الإنسان غير قادر على مسح أفكاره وقمع مشاعره المؤلمة المسجّلة في ذاكرته وذهنه. بالتالي، فإنّ هذا العلاج يقترح، أولًا، تقبُّل الأفكار المزعجة والمشاعر المؤلمة، ثُمّ فكّ الاندماج معهما؛ ويذكرّنا بأنّ الأفكار هي في الأصل مجرّد كلمات وعبارات ليس إلّا، ولا تملك قوة السيطرة علينا، إلّا إذا سمحنا لها بذلك (بأن تُعشّش في رأسنا) (هذا هو مبدأ التقبّل)؛ بعد ذلك، يدعونا إلى محاولة العيش في اللحظة الحالية، العيش هنا والآن (من خلال تعلّم مهارات اليقظة الذهنية Mindfulness)، وتحديد القيم التي تهمّنا في الحياة والالتزام بالعمل على تحقيقها والوصول إليها، لأنّنا بهذا سنعيش حياة غنية ومليئة بالحيوية وذات معنى (وهذا هو الالتزام). الآن، إذا عُدنا إلى المثل الصيني الجميل، المذكور أعلاه، فنرى كيف أنّه يحمل حكمة عميقة حول كيفية إدارة الأفكار السلبية والمشاعر المؤلمة في حياتنا، بما يتوافق مع نظرية العلاج بالتقبّل والالتزام (ACT). فـ"طُيور اللّقلق" هنا ترمز إلى الأفكار السلبية والمزعجة، وإلى المشاعر المؤلمة، وإلى الهموم اليومية، والقلق والتوتّر. حيثما إنّك لا تستطيع منع الطيور من "التحليق فوق رأسك"، هكذا لا يمكنك منع الأفكار السلبية من الظهور (هي جزء طبيعي من العقل البشري، ومن حياتنا)، فهي مثل طيور اللّقلق التي تحلّق في السماء، ستأتي وتذهب الأفكار من تلقاء نفسها؛ مع ذلك، وهذا هو المهم، فأنت تستطيع منع هذه الأفكار من الاستقرار والاستمرار- كما تمنع الطيور "من بناء الأعشاش" فوق رأسك، وبدلًا من ذلك يمكنك اختيار عدم التركيز عليها أو عدم تضخيمها، وبإمكانك منعها من أن تصبح معتقدات راسخة أو مشاعر دائمة. نقوم بذالك من خلال أن نتعلّم عدم مقاومة الأفكار بل مراقبتها دون تفاعل، ونلاحظ الأفكار كسُحب عابرة (أو كأوراق الشجر وهي تطفو على سطح النهر المتدفّق) دون التعلّق بها (فكّ الاندماج المعرفي). كما يمكننا الامتناع عن "بناء الأعشاش" عبر عدم محاولة قمع الأفكار، فهذا يجعلها أقوى ("إنسَ أن تنسى"، وتذكّر مفارقة الفيل الوردي التي تُظهر كيف أنّ محاولة كبت فكرة ما قد تجعلها أكثر إلحاحًا). نلاحظ الأفكار بموضوعية: "أنا ألاحظ أنني أفكّر بكذا...".ونسأل أنفسنا: "هل هذه الفكرة مفيد لي؟"، ونعيد توجيه انتباهنا لنشاط إيجابي. من المهم للقيام بهذه الخطوات أن نتتدرّب على تقنيات التأمّل والتنفّس واليقظة الذهنية. مثال تطبيقي تمرين "مراقبة السحابة" (لليقظة الذهنية ولفكّ الاندماج المعرفي): - عندما تأتي فكرة سلبية (مثل "أنا فاشل")، تخيّلها كـ "سحابة عابرة" في سماء عقلك. - قُل لنفسك: "هذه مجرد سحابة/ فكرة، ليست حقيقة مطلقة". - شاهدها وهي تتحرّك ببطء مبتعدة دون محاولة دفعها. - الهدف: تعويد عقلك على عدم الاتصاق بالأفكار العابرة.
نستطيع القول، بناءً على ما ذُكِر أعلاه، إنّ الفرق بين "الصحة النفسية" والاضطراب هو أنّ الشخص السليم يمرُّ بهذه الأفكار لكنها "لا تُعشّش في رأسه"، بينما الشخص "المضطرب" هو مَن يسمح لهذه الأفكار بالبقاء والتكاثر (ويعمل من الحبّة قُبّة). في النهاية، فإنّ هذا المَثل يعلمنا فنّ "التعايش" مع ما لا يمكن تغييره (ظهور الأفكار) مع "التحكّم" فيما يمكن إدارته (كيفية التعامل معها). إنه دعوة لاختيار حريتنا الداخلية رغم كل الظروف الخارجية. حسام كناعنة، معالج نفسي.
مراجع مهمّة في العلاج بالتقبّل والالتزام : 1. "تبسيط العلاج بالقبول والالتزام" (ACT Made Simple)، تأليف: د. روس هاريس، ترجمة: محمد الخطيب. 2. "المرشد في العلاج بالتقبّل والالتزام"، تأليف: د. بوعلام قاصب، دار ومضة، 2021.
#حسام_كناعنة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الانتحار و-العدوى العاطفية- أو -Copycat Effect-
-
حناظل فلسطين في يومهم العالمي: أطفال فلسطين تحت القصف والاست
...
المزيد.....
-
ما هي أكبر شركة طيران في الشرق الأوسط من حيث القدرة الاستيعا
...
-
شركة طيران كبرى تكسر الصمت بعد أسابيع من التأخيرات والإلغاء.
...
-
وسط جدل واحتجاجات سياسية... أغنية سويدية عن الساونا مرشحة لل
...
-
الخارجية الروسية: لافروف أجرى محادثة هاتفية مع روبيو اليوم ا
...
-
الرئاسة البيلاروسية تصف نتائج مفاوضات اسطنبول بالنجاح التكتي
...
-
السيسي والسوداني يؤكدان ضرورة تجنب توسع الصراع الإقليمي
-
السفير الروسي في بريطانيا: حان الوقت لتقرر لندن ما إذا كانت
...
-
سويسرا.. تظاهرة حاشدة دعما للشعب الفلسطيني في جنيف
-
رجال الإشارة من مجموعة -المركز- يضمنون تواصلا مستمرا بين مرا
...
-
روسيا.. ابتكار مسكنات ألم جديدة منخفضة السمية
المزيد.....
-
الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2)
/ عبد الرحمان النوضة
-
الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2)
/ عبد الرحمان النوضة
-
دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج
/ توفيق أبو شومر
-
كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
كأس من عصير الأيام الجزء الثاني
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية
/ سعيد العليمى
-
الشجرة الارجوانيّة
/ بتول الفارس
المزيد.....
|