أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي مهذب - الثلاجة رقم 9














المزيد.....

الثلاجة رقم 9


فتحي مهذب

الحوار المتمدن-العدد: 8337 - 2025 / 5 / 9 - 16:30
المحور: الادب والفن
    


الثلاجة رقم 9.

فتح العامل الهزيل باب المشرحة ليضع الجثة الجديدة في ثلاجة الأموات.
الساعة تجاوزت منتصف الليل.
كان الصمت يقطر من اللمبة المتدلية مثل ثدي ناشف.
الجثة ملفوفة بغطاء رمادي ممزق عند الأطراف،والقدم اليسرى تبدو كما لو أنها ماتزال ترتعش بخفة كأنها ترفض الدخول إلى المجهول.
إقترب العامل الهزيل بحذر،الخوف خفاش شرير يتطوح في حديقة رأسه،
عيناه تغوصان في التجاويف المظلمة للثلاجات.
الثلاجة رقم 9...
لكنه تردد قليلا ثم فتحها بيد مصطفقة تكاد تطير من موضعها.
إنبعث نفس بارد متعطن يستنفر الحواس ويحفر أخاديد من الرعب متعرجة في الذات.
تمتم بصوت خافت:
"هيا لا وقت للكوابيس.."
ودفع الجثة إلى الداخل.
لكن الباب لم يغلق.
ظل مواربا،كأن شيئا من الداخل يقاوم الإنغلاق.
شيئا لا يرى ولا يفسر...
إلتفت العامل ليغادر،فسمع خشخشة خفيفة..
صوت أظافر تنقر على المعدن من الداخل.تجمد الدم في عروقه.
إقترب مجددا،وفتح الباب مرة أخرى.كانت الجثة تنظر إليه.عيناها نصف مفتوحتين..
وعلى فمها إرتسمت إبتسامة مشوهة.
لم تكن هناك حين أحضروهاقبل ساعة.
تراجع العامل بحركة متعجلة كأن الأرض تهتز تحت قدميه.
أشعة المصباح اليدوي إهتزت مع يده المرتقصة لتكشف وجها شاحبا غارقا قي صمت لا يحتمل.
أرخى سدول أذنيه،أصغى إلى قلبه يدق كطبول الحرب.
رفع المصباح نحو الوجه فبدت التجاعيد عميقة فوق جبين مشوه وعيون سوداء غائرة لا تعكس الضوء بل تلتهمه.
إسترسل الصوت الخائف نفسه.
"هل حين تأتي ينفتح باب الرحمة على مصراعيه"؟
لم يسمع العامل الهزيل إلا همسا باردا كأنه صدى بؤس تليد.
قاطع الصمت فجأة وقع خطوات على أرضية الرخام البارد.إنعكس ضوء المصباح على قطرة دم تسللت من تحت الثلاجة،تمددت ببطء مثل جسم حي يبحث عن دفئه.
إلتفت العامل إلى ظله على الجدار:
شبح طويل،أطول مما ينبغي يجر وراءه ساقا هزيمة.
حاول الهرب،
كأن الممر الممتد أمامه يبتعد كلما اقترب.
سمع خلفه الباب يغلق ببطء،
ثم صدى الإغلاق يتكرر مرات..وهو يردد، :
"لا مهرب لا مهرب.."
الأنفاس ثقيلة، والجدران تقترب.
الأضواء تنطفئ واحدة تلو الأخرى،
حتى لم يتبق سوى وهج خافت يأتي من داخل الثلاجة رقم 9.
صوت تنفّس، ليس صادراً منه،بل من خلفه...
قريب جداً..يشبه تنفّسه، لكنه أشد برودة .. وأبطأ...كأن زمناً آخر يتنفس فيه.

التفت العامل فجأة،
فرأى نفسه.نعم... نفسه.يقف خلفه،
شاحباً، بعيونٍ منطفئة،
يضع يده على كتفه كقيدٍ رماديّ.
"لقد تأخرتَ كثيراً"، قال الظل.
أراد أن يصرخ،لكن فمه لم يعد فماً...
كان ثقباً مفتوحاً على هواء بارد،
كأن الصمت قد التهم صوته إلى الأبد.

الثلاجة رقم 9 انفتحت وحدها،
دون أن يلمسها أحد.
خرج منها صدى عويل بعيد،
كأن ملايين الأرواح تناديه من باطن الأرض.
ثم... دخلها.
لم يقاوم،لم يشعر بشيء.
كأن كل ما عاشه لم يكن أكثر من حلم جثة تنتظر في الثلاجة أن تستيقظ.
في الصباح جاء عامل جديد.
فتح باب المشرحة.وجد ثلاجة مفتوحة
فيها جثة غريبة وجهها مألوف...
ملامحها تشبه صور العامل القديم...
لكن عينيها كانتا مفتوحتين تماماً،
تحدّقان فيه.
تراجع العامل الجديد خطوة إلى الوراء،
يده ترتجف،
والهواء في المشرحة صار أثقل من الجدران.
اقترب من الثلاجة رقم 9،
قرأ الاسم المكتوب على بطاقةٍ معلقة فوق الجثة:
"لا اسم، لا تاريخ... فقط: هو."
حاول إغلاق الباب ولكن مني بالفشل.
خرج من الداخل همسٌ بالكاد يُسمع:
"أغلق الباب... إن استطعت..."
في الليلة نفسها،
سُجّل في دفتر المشرحة
أن أحد العاملين اختفى دون أثر،
وأن الثلاجة رقم 9 ظلت مفتوحة رغم كل المحاولات.
وأن الجثة داخلها،
تغيّر وجهها كل ليلة.
إلى يومنا هذا يقال إن من يعمل في المشرحة لا ينظر مباشرة إلى رقم 9،
ولا يعمل هناك أكثر من ليلة واحدة.
ومن يفعل...
يلتحق بالجثة.

فتحي مهذب تونس.

---

---



#فتحي_مهذب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شذرات من كتاب الشمس
- المجد لتفاحة صوتك الأزرق
- رباعيات
- سكان روحي
- عذابات فان غوغ
- النظر إلى العالم بعين ثالثة
- روائح مزعجة
- البستاني
- بعد الستين
- البواق
- كم أنت رائعة يا ريتا
- قراءة الدكتورة عربية بلحاج
- الجندي الذي كان يحب لارا
- الحياة قصيرة جدا.
- فتوحات
- النقطة السوداء
- متكىء على خيط ناحل من الضوء
- إنتظرنك طويلا يا سلمى
- قراءة الدكتورة عربية بلحاج.
- البئر


المزيد.....




- مصر.. جدل في البرلمان بسبب إغلاق بيوت الثقافة.. ومسؤول: -مسا ...
- السويد الى نهائي مسابقة الاغنية الاوروبية يوروفيجن
- -المعجم الأدبي- يرى النور في طهران بثنائية فارسية - عربية
- المؤرخ الأميركي يوجين روغان: الاستعمار سلّح الاستشراق والعثم ...
- اللغة العربية والذكاء الاصطناعي.. معركة للبقاء في المشهد الر ...
- في مهرجان كان السينمائي.. لا يجوز الصمت أمام رعب غزة
- صورة محمد بن سلمان -الأيقونية- تثير تفاعلا في سوريا بعد رفع ...
- تألق عربي لافت في حفل افتتاح مهرجان كان السينمائي 2025
- نجوم الفن المصري يتألقون في مهرجان كان السينمائي
- الأرض في ديوان إبراهيم طوقان


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي مهذب - الثلاجة رقم 9