|
هوية المدينة العراقية على المحك
مضر خليل عمر
الحوار المتمدن-العدد: 8366 - 2025 / 6 / 7 - 13:13
المحور:
قضايا ثقافية
1 -التركيب الاجتماعي للمدينة خلال عقد ثمانينات القرن الماضي ، عند دراستي للتركيب الاجتماعي للمدن الغربية ، في انكلترا ، وباعتماد الاحصاءات الرسمية ، و تحليل بياناتها بطريقة العامل البيئي Factorial Ecology ، الذي يثمر ثلاث ابعاد Dimension رئيسيىة : البعد السكاني (الديموغرافي) ، البعد الاقتصادي – الاجتماعي ، و البعد العمراني . اثمر التحليل تطابقا كبيرا بين مؤشرات المتغيرات الاقتصادية مع مؤشرات المتغيرات الاجتماعية لتشكل مع بعضها البعض بعدا واحدا (العامل الاقتصادي – الاجتماعي) ، و كذلك وجدت تطابقا مكانيا بين العوامل الثلاث المذكور آنفا . بعبارة ادق ، يعكس الوضع الاقتصادي للعائلة موقعها الاجتماعي ، وان مقدار دخل رب الاسره هو المعيار الاساس للتصنيف الاقتصادي – الطبقي ، وان هذا البعد (العامل) يتطابق توزيعه الجغرافي مع توزيعات عاملي التركيب الديموغرافي و المستوى العمراني بدرجة كبيرة . اي ، ان النمط العمراني المكاني يتطابق توزيع قيمه مع توزيع قيم النمطين الاقتصادي و السكاني مكانيا ايضا . كنت اقارن ذلك مع نفسي ، حينها ، مع التركيب الاجتماعي للمدن العراقية ، و مدى تطابق هذه الابعاد فيها ، خاصة ، مع توزيع الدولة للاراضي للبناء السكني على اساس المهنة (المعلمين ، التجار ، المهندسين ، القضاة ، الضباط ، الادارة المحلية ، وغيرها) . وكنت اقارن السلوك الحضاري اليومي للموظفين ، وابنائهم مع اقرانهم ، وغيرهم من ابناء الشعب كنموذج لسلوك ابناء الطبقة و مستواهم الحضاري . قد لا تكون هناك فروقات كثيرة ، ولكن كان للقانون هيبة ، و للاسرة دور ، والمدرسة مازالت تمارس دورها بخير و مسئولية يعتد بها . كان للطبقة المتوسطة حضور واضح في ثقافة المجتمع ونشاطاته المختلفة ، ولعل ذلك لحجمها الكبير ودورها في ادارة دفة البلاد (اداريا وسياسيا) . كان التركيب الاجتماعي للمدن العراقية (من وجهة نظري الشخصية) اقل حدة مكانيا من نظيره في المدن الغربية . ولكن ، بقي عندي شك في مدى تطابق المؤشرات الاقتصادية – الاجتماعية مع بعضها البعض ، و كذا الحال مع التركيب الديموغرافي ، و مع المستوى العمراني للمباني . فعوائل الموظفين (كلاهما في سلك التعليم على سبيل المثال لا الحصر) مستواهم الثقافي - الحضاري متميز عن العوائل الاخرى ، التي قد يكون رب الاسرة بمستوى تعليمي متدني ولكنه يقوم بتشغيل ابنائه جميعا بمهن حرة ، وبهذا يكون دخل الاسرة اعلى بكثير و التركيب الديموغرافي مختلف (عدد اطفال اكثر) ، ولكن يقطن في سكن واطئ المعيار. 2 - ثقافة المدينة ومستواها الحضاري يعكس سكان المدينة مستواهم الحضاري من خلال سلوكهم في الشارع ، وبما يمثلوه من حضارات ثانوية (فرعية) Sub-Culture ، ولكن تبقى كلمة الفصل لقانون الدولة . فهو المؤطر لثقافة المجتمع و المشكل لها ولمستواها الحضاري . اذ يرتبط بالتركيب الاجتماعي للمدينة الثقافات الفرعية للفئات التي تقطنها ، كل حسب اماكن سكناها ، من خلال السلوك الجمعي لكل فئة و مجموعة (عرقية ، دينية ، ..... الخ) . وبسيادة قانون الدولة ، و صرامة الحكومة في تطبيق القوانين تتشكل في المحصلة النهائية ثقافة المجتمع الاجمالية ، التي يعرف بها وتكون من سماته و المؤشرة لهويته الخاصة . وفي حال غياب هذه السيادة تبادر تنظمات وتشكيلات اجتماعية (العشائر) – سياسية (الطوائف والكتل وعشاق السلطة والتسلط) لتولي الامر وقيادة المجتمع و ابراز ثقافات منسية و تسيسها لخدمة مصالحهم الخاصة او لتنفيذ اجندة اجنبية . وقد عرفت بغداد منذ اواسط القرن الماضي بتركيبتها الاجتماعية المميزة ، عبر عنها باسماء المناطق والاحياء السكنية : عكد النصارى ، عكد الكراد ، حي الصابئة ، وسميت مناطق بالمهن السائدة فيها (الكرادة على سبيل المثال لكثرة الكرود التي تسقي الارض) ، ومع كل هذا ورغما عنه ، بقيت كلمة بغدادي تعني مستوى حضاري معين ، وشخصية اجتماعية مميزة ، وحتى بين طلبة جامعات بغداد انتشر مصطلح ( طلبة محافظات) الذي يطلق على من هم من سكنة محافظات العراق الاخرى وليس بغداد . ليس للتركيب الاقتصادي اثر كبير في تشكيل الطبقة - الفئة الاجتماعية في العراق ، في الوقت الراهن على الاقل . فمنذ عقد التسعينات و ما تلى ذلك بعد 2003 من صعود فئات ونزول اخرى بشكل سريع ومفاجئ ادى ذلك الى اضطراب اجتماعي واضح . عادة ، يترافق التغير الاجتماعي مع التغير الاقتصادي عندما يحدث ذلك تدرجيا ، (قبول نفسي – اجتماعي) ، حيث يسمح بالتاقلم مع الاوضاع الجديدة و التكيف مع متطلباتها الاجتماعية ، والسلوكيات المناسبة والمقبولة . ولكن عندما يحدث ذلك بشكل مفاجئ وبوتيرة متسارعة الخطى عندئذ تظهر موجات سلوكية غير معتادة و غير مقبولة من قبل الكثيرين . فهناك من فقد الكثير بسبب تغيرالوضع السياسي او جراء مضاربة اقتصادية غير موفقة (سامكو على سبيل المثال) ، يقابله الكثير الذي كسب ما لم يكن يحلم به سابقا (مجموعة رفحاء على سبيل المثال) . يضاف الى ذلك هشاشة الحكومة و نقص في متابعتها لتطبيق القوانين على الجميع ، و اتساع دائرة غسيل الاموال للفئة التي قد اثرت ماديا فجأة بعد سنين عجاف ، كذلك انتشار المطاعم و النوادي و الكازينوهات المفتوحة للجميع . لقد كشفت هذه الاوضاع هزالة الارضية الثقافة - الحضارية عند البعض للرؤية العيانية بدون تزويق او تعديل . فالشارع باثاثه وما يضمه من مرافق خدمية وسلوكيات غير منضبطة قد عكس بشكل جلي الواقع المؤلم لما وصل اليه الامر بعد الاحتلال . مع انتشار المطاعم الفارهة ، وباسعار لا يتمكن عليها الموظف البسيط ، افترض (طبقا لما ذكر آنفا) ، مستوى اقتصادي - حضاري معين لرواد هذه المطاعم . وافترض ان ذلك ينعكس من خلال المظهر ، و سلوك الابناء على وجه الخصوص . ولكني لاحظت ان الدشداشة (البيتية وليس الكشخة) مع (النعال) لرب الاسره وترك الابناء بدون رقابة او رادع هو المعمول به من قبل البعض . ولاحظت ايضا في المقاهي و المطاعم (الشعبية و الاخرى) ارتياد المراهقات و تدخين الاركيله وممارسات لا تدخل ضمن السلوك الاجتماعي المقبول . نعم ، لقد تغيرت المدينة جذريا ، فقد تداخلت استعملات الارض فيها ، وانتشرت المقاهي و المطاعم ، و كازينوهات التسلية ، و صغرت الوحدات السكنية طاردة سكانها الى الشارع ، وفقدت المدرسة دورها في التربية والتوجيه ، واصبح الجيل الجديد سائبا بدون رقيب ، تحت رعاية وتوجيه تجار المخدرات وسماسرة الدعارة (الرسمية وشبه الرسمية) ، فكانت هذه النتيجة المؤلمة . كجغرافي معني بالتركيب الاجتماعي – الثقافي للمجتمع اتسائل مع نفسي : هل الفوضى غير الخلاقة اصابتنا في عقر دارنا ، فلم نعد نميز الاخرين من المظهر ؟ فلم اعد اقيم الاخرين في ضوء ما عرفته من دراستي سابقا (قل لي اين تسكن اقل لك من انت) ، ولا اتوقع سلوكا معينا من خلال المظهر الخارجي للشخص ، ولا اخمن المستوى الاقتصاي لقاطني الحي السكني من المستوى العمراني فيه . فالالوان قد تداخلت بشكل كبير ، وفقدت الطبقة الاقتصادية – الاجتماعية سماتها المميزة لها ، فضاعت الهوية التي كنت اعرف كيف احددها دراسيا و ميدانيا . لعل مرد ذلك الى انتشار الهجرة الى المدن و السكن العشوائي ، و وضع اليد على كل ما يمكن اخذه دون رقيب او حسيب . فهوية المدينة ، وثقافتها - حضارتها قد انقلبت راسا على عقب . فالطابع الاجتماعي للمدينة لم يعد حضريا ، رغم شيء من الازدهار العمراني . يبدو لي ان دهاقنة العولة (الدولة العميقة دوليا) يريدون ذلك ، ويسعون الى طمس الهويات الوطنية والغاء دورها كليا ، ومن اجل سيطرتهم على العالم فقد سخروا الانترنيت والاعلام لدعم الاقتصاد الراسمالي وتحقيق غاياته القريبة الامد والبعيدة المدى . ولا ينطبق هذا على الشعوب المغلوبة على امرها ، بل يرى سكان مدن الغرب انفسهم مراقبين من قبل الحكومة حتى في منازلهم نتيجة استخدام كامرات المراقبة في الشوارع و الاحياء السكنية ، و توثيق المعلومات الشخصية وتحديثها دوريا . فالعالم الان (بصريح العبارة) مستعمر بالكامل (مكانيا ومعنويا) من قبلهم وهم من يوجه سياساته المالية والثقافية والاجتماعية . فمدن العالم (الثالث - النامي ، وحتى مدن الدول التي تعد متقدمة) تعاني من ممارسات سياسة Pig in the middle . هذه اصلا لعبة اطفال ، حيث يضعون خنزيرا صغيرا وسط ارض طينية (وحلة) و يلتفون حوله و يضربون بارجلهم ويصفقون بايديهم لاثارة رعبه ، الذي يبقى يدور يريد الخروج فيمنعوه ، وتستمر اللعبة الى ان يسقط من التعب وينهار كليا . ونتيجة لسيادة العولمة و التطورات الراسمالية الراهنة فقد اضحت المدن متشابهة في الكثير من الجوانب والمعطيات ، واصبحت الدول (الكبرى قبل الصغرى) اداة تنفيذ اجندة صيغت منذ مدة غير قصيرة ، بعضها معلن وبعضها تكشف فقرات منه بين حين واخر . واتباع سياسات تجميع الشتات (قوميات و طوائف ودين) بقصد تسهيل عملية الهيمنة عليها وليس خدمتها وتطوير واقعها . وللبنك الدولي دور حاسم في عملية السيطرة على الشعوب و عرقلة تنميتها ، والتدخل في ادق تفاصيل سياساتها الداخلية في التعليم والاقتصاد و البناء . وحركة الهجرة والتهجير القسري دليل واضح عن دور الدولة العميقة في اعادة تشكيل العالم جغرافيا لتحقيق اهدافهم الاستراتيجية . لقد انحسرت الطبقة المتوسطة امام اتساع ونمو واضح للطبقة الفقيرة ومن هم دون خط الفقر ، مقابل طفرة غير مسبوقة للاغنياء من المليارديرية . بعبارة اوضح ، لقد اعيد ترتيب الطبقات الاقتصادية – الاجتماعية وبالشكل الاتي : طبقة المليارديرية (متنامية الثروة والعدد) ، طبقة متوسطة (منكمشة على نفسها) تصارع لاجل البقاء ، طبقة فقيرة واسعة جدا ومتباينة كثيرا في تفاصيل فقرها واسبابه . نتيجة ذلك تراجع دور الطبقة المتوسطة (التقليدي) في رسم الملامح الثقافية للمجتمع ، و عزلت الطبقة الغنية نفسها عن بقية المجتمع لتقوده عن بعد (من بروج عاجية ، وقلاع محمية) ، و بقيت الطبقة الفقيرة تجتر ثقافة الفقر و تعمقها و تجعلها سمة للمجتمع الحضري . 3- تساؤلات مشروعة فماهي هوية مدننا الان ؟ ومقارنة مع ما كانت عليه قبل نصف قرن ؟ هل انتبهنا لهذا التغيير الجذري ؟ الا يستحق ان يكون ذلك مادة للدراسة والتقصي العلمي ؟ ما هو اثر الجامعات المستحدثة في المحافظات العراقية على المدن : عمرانيا ، اقتصاديا (كاساس اقتصادي لمدن خدمية) ، اجتماعيا ، ثقافيا ، حضاريا ؟ بعبارة ادق : الى اية درجة قد تغيرت مدننا خلال نصف قرن من الزمان ؟ وماهي معطيات هذه التغييرات ؟ فنتيجة هوس العولمة نسينا ان نفكر بانفسنا (انقياد اعمى) ، وبقينا نلهث وراء المستجد في قشور الحضارة . هذا ما يريده مهندسو العولمة . فالاستعباد الالكتروني اقسى وامضى من الاستعباد السياسي والاقتصادي . لقد جزأت ثقافة العولمة العائلة و جعلتها راكعة امام الانترنيت ، وخانعة امام الاخبار التي تبث من خلالها السموم . لا عتب على سياسيي الغفلة فهم اميين اصلا ، طارئين على السياسة حتما ، و مجندين لتحقيق منهاج مرسوم مسبقا .
#مضر_خليل_عمر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجغرافيا و الحياة اليومية
-
متى نتساوى مع (الاخرين) ؟
-
جدلية المكان الثقافية
-
دور الجغرافيا في معالجة مشكلات البيئة والمجتمع
-
مناهج دراسة الجريمة جغرافيا
-
الاستراتيج البحثي : اسس و سياق عمل
-
دعوة لدراسة تداعي بغداد حضاريا
-
هل تكذب الجغرافيا ؟
-
عندما تكون الجغرافيا مصدر صداع ومتاعب : فلسطين انموذجا
-
الانتشار المكاني للظواهر الاجتماعية
-
الحضارات الفرعیة : تفاعل أم صراع
-
الجغرافي و صناعة القرار السياسي
-
الخريطة الذهنية لمصادر القوة والضعف في علم الجغرافيا
-
صراع الهوية : -نحن- و -هم-
-
نحباني للو الالفية الثالثة
-
للثقافة جغرافيتها المميزة
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
-
ارهاصات متقاعد
-
الفاصلة الثقافية بيننا و العالم المتمدن
-
ثقافة الايفون
المزيد.....
-
خبير شؤون طيران لـCNN عن تحطم الطائرة الهندية: -جاء بعد احتف
...
-
الهند: مقتل أكثر من 200 شخص في تحطم طائرة بعد إقلاعها من مطا
...
-
هلوسات مرعبة وأصوات غريبة… ماذا يفعل الفصام بالعقل؟
-
ستة من ركاب السفينة -مادلين- بينهم النائبة الأوروبية ريما حس
...
-
السعودية تحبط تهريب 2,756,806 أقراص إمفيتامين و1,944,230 قرص
...
-
وزارة الدفاع الألمانية: لا ندرس إرسال صواريخ -توروس- إلى أوك
...
-
مصر -ترحل- عشرات الأجانب المشاركين في -المسيرة العالمية إلى
...
-
مصر.. القبض على تشكيل عصابي من رجال الأعمال يهربون المخدرات
...
-
القوات الروسية تدمر قافلة آليات عسكرية أوكرانية في مقاطعة سو
...
-
السيسي يدعو إلى توسيع الاعتراف بالدولة الفلسطينية
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|