|
سلطة الامتحان: من قَولبَة المتعلمين إلى تكريس الخوف.
فخرالدين القاسمي
الحوار المتمدن-العدد: 8368 - 2025 / 6 / 9 - 16:49
المحور:
قضايا ثقافية
تردّد على مسامعنا في مراكز تكوين الأساتذة، وقرأنا في كتب علوم التربية أن الامتحانات آلية موضوعية لقياس التحصيل الدراسي. غير أن هذا التصور البيداغوجي يخفي وراءه شبكة من آليات السلطة والانضباط، تجعل من الامتحان آلية سلطوية تُسهم في قولبة المتعلمين ضمن نماذج سلوكية ومعرفية محددة سلفًا، فبدل أن تكون التقويمات المدرسية لحظةً لإعمال الحسّ النقدي والابداع من قِبل الـمُتعلم، وفرصة للتحفيز من لدن المدّرس، غدت طقوسًا تُكرس الانضباط وتُعيد إنتاج الطاعة داخل منظومة المدرسة. لقد اتّهم ميشيل فوكو (Michel Foucault) الامتحان بوصفه تقنية غير بريئة، حيث اعتبره أداة للمراقبة والتصنيف تُسهم في تطويع المتعلمين منذ المراحل الأولى من تنشئتهم الاجتماعية. يرصد هذا المقال التحول الذي طرأ على المدرسة، من مؤسسة للتحرر إلى جهاز لإعادة إنتاج السلطة. كما يستعرض إسهام الامتحانات في قولبة المتعلمين وتكريس ثقافة الخوف، ليس فقط من الفشل الدراسي، بل من الإقصاء الاجتماعي والانكسار النفسي. يرى ميشيل فوكو في مؤلفه "المراقبة والمعاقبة" أن الامتحان يربط بين السلطة والمعرفة، ويحوّل المعرفة إلى وسيلة للضبط، فهو لا يقيس معارف المتعلم فقط، بل يراقبها ويصنّفها ويشرعن موقعه داخل البنية الاجتماعية. وبهذا، يندرج الامتحان ضمن ما يُسميه فوكو بـ"الميكروفيزياء السلطوية"، حيث لا تُمارَس السلطة من أعلى فحسب، وإنما تُبنى في تفاصيل الحياة المدرسية (في جدول الحصص الدراسية، في الصمت المفروض داخل القسم، في لحظة الامتحان نفسها، وفي تعامل الإدارة التربوية...). كان من المتوقع أن تُصبح مدارس الدول النامية أداة للتحرر وبناء الإنسان المواطن، لكنها وُظِّفت كأداة لإعادة إنتاج نمط سلطوي قائم على المركزية والتراتبية. فالمنهاج الدراسي، واللغة التعليمية، ونظام التقويم، تخضع جميعها لاعتبارات سياسية وأمنية أكثر مما تخضع لحاجات تربوية أو معرفية. لقد أثبتت المنظومة التعليمية أن الامتحان لم يكن يوما، كما نعتقد، أداة لترقية الفكر، بل كان وسيلة لإعادة إنتاج الخضوع وتكريس الخوف. تنشأ بين التلميذ والامتحان علاقة توتّر يطبعها شعور دائمٌ بالخوف من الرسوب أو الإقصاء أو الفشل. ويتعدى هذا الخوف اللحظة التعليمية، ليُشكّل بعدا نفسيا واجتماعيا دائما، يُلازم المتعلم حتى في حياته المهنية والذاتية. إن ثقافة الخوف هذه تُعيد إنتاج متعلم مُنضبط، لكنه محدود الابداع والمبادرة، وخائف من الخطأ، ومهووس بإرضاء السلطة. يشير أحد الباحثين إلى أن الامتحانات المدرسية في المغرب تحوّلت إلى طقوس اجتماعية للفرز أكثر منها أدوات معرفية للتقويم، وبذلك يُسهم الامتحان في تثبيت النظام الاجتماعي القائم على التفاوت والتراتبية. لا يمكن الحديث عن إصلاح التعليم دون مساءلة جوهرية للآليات السلطوية التي تُسيّر المدرسة، وعلى رأسها نظام الامتحانات. إن نقد ميشيل فوكو لنظام الامتحان يضعنا أمام حقيقة تتجاوز كونه لحظة لتقويم معارف المتعلم فحسب، بل آلية سياسية واجتماعية ونفسية، تُعيد إنتاج الخوف والخضوع باسم الموضوعية والنجاح. ويبرز هذا الخوف "الممنهج" فيما يرافق الامتحان من خوف من الفشل، من العقاب، من التقييم السلبي، ومن خسارة الاعتراف الاجتماعي. لذلك، فإن تجاوز ثقافة الخوف وقولبة المتعلمين يتطلّب تفكيك البنية العميقة لنظام الامتحان، وبناء منظومة تعليمية تُؤمن بالتعلم بوصفه تحررا لا رقابة، وتُعيد إلى المدرسة دورها الإنساني بدلا من وظيفتها الأمنية.
الهوامش: 1. فوكو ميشيل، المراقبة والمعاقبة ولادة السجن، ترجمة علي مقلد، مراجعة وتقديم مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990م. 2. عبد السلام بنعبد العالي، "فوكو: المعرفة والسلطة"، مجلة فكر ونقد، العدد 7، 1998. 3. Abdellah Hammoudi, Master and Disciple: The Cultural Foundations of Moroccan Authoritarianism, Chicago: University of Chicago Press, 1997. 4. محمد أسد، السياسات التربوية في المغرب المعاصر، منشورات أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2010. 5. الطاهر بوعزة، "التعليم في المغرب: أزمة منهج أم أزمة سلطة؟"، مجلة وجهة نظر، العدد 44، 2009. 6. أحمد الزايدي، "امتحانات مدرسية أم طقوس إقصائية؟"، جريدة أخبار اليوم المغربية، عدد 2215، 12 يونيو 2017.
#فخرالدين_القاسمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المسيرة الخضراء : تاريخ ما لا يجب أن يهمله التاريخ
-
حركة الأشراف السعديين من الجهاد الى السلطة .
-
1. قضية الصحراء في العلاقات المغربية الافريقية بين سنتي(1972
...
-
الديمغرافية التاريخية: دراسة حالة المغرب الوطاسي.
-
التغذية والغذاء خلال الفترة الوطاسية: مباحث في المجتمع والفل
...
المزيد.....
-
-سنتورط-.. رئيس CIA الأسبق يبيّن لـCNN ما سيحصل إذا ضربت أمر
...
-
فيديو يُظهر صواريخ إيرانية تحلق في سماء إسرائيل
-
علاقة صدام حسين والقذافي.. تحليل صورة -نصف ممزقة- لخامنئي بغ
...
-
البحرين.. جملة قالها الشيخ ناصر أمام بوتين وردة فعل الأخير ت
...
-
مردخاي فعنونو: كيف عرف العالِم سر الترسانة النووية الإسرائيل
...
-
وزير الخارجية الإسرائيلي: أخرنا إمكانية امتلاك إيران لسلاح ن
...
-
إسرائيل تضرب وسط إيران.. قصف مبنى في قم وانفجارات في أصفهان
...
-
-تمويل بغباء-.. ترامب يكشف سرا عن سد النهضة
-
سفن وصواريخ.. كيف تساعد أميركا إسرائيل في صد هجمات إيران؟
-
-شالداغ-.. خطة إسرائيل البديلة للتعامل مع منشأة -فوردو-
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|