|
الدين كسلاح جيوسياسي: الحروب المقدسة الجديدة في الشرق الأوسط
عامر عبد رسن
الحوار المتمدن-العدد: 8393 - 2025 / 7 / 4 - 15:02
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
تمرّ منطقة الشرق الأوسط اليوم بمرحلة غليان غير مسبوقة، إذ يتصاعد فيها الخطاب الديني المتبادل بين الإسلام الشيعي، بنزعته المهدوية، وبين العقيدة اليهودية التي يستلهم منها قادة إسرائيل نبوءاتهم حول الهيكل والخلاص. ووسط هذا التناحر العقائدي، لا يمكن إغفال أنّ العقد الماضي وحده شهد حربًا شعواء داخل الدين الواحد، بين الشيعة والسنّة، دامت سنوات، وخلفت ما خلفت من دمار ونزف. ومع خروج المنطقة من حرب مذهبية، ها هي تُساق من جديد نحو مواجهة عقائدية عابرة للأديان، لكنها أشد وقعًا وخطورة، لأنها تُدار بأدوات حديثة، وتُشرعن بنصوص قديمة. وتدعمها دول عظمى واقتصاديات كبيرة بالمنطقة وخارجها . نستعرض هنا كيف لم تعد الحروب في الشرق الأوسط تُخاض فقط بالسلاح والسياسة، بل باتت تُشرعن بأدوات أشد وقعًا: "النصوص المقدسة". من قم إلى القدس، ومن البيت الأبيض إلى مضيق هرمز، تُستخدم الروايات الدينية الإبراهيمية كرافعة للنفوذ ومبرر للصراع، حيث تُستدعى نبوءات قديمة لتفسير قرارات عسكرية حديثة. في مشهد سياسي باتت فيه العقائد توازي الدبابات في تأثيرها، لم يعد تقاسم النفوذ مرهونًا فقط بموازين القوة، بل أصبحت العقيدة الدينية عنصرًا محوريًا في تشكيل السياسة الخارجية وتحريك الجبهات. لقد صارت "أرض الميعاد" و"ظهور المهدي" و"الهيكل الثالث" أدوات مركزية في صياغة قرارات إقليمية. ويمكننا القول هنا إننا انتقلنا من سايكس–بيكو السياسي إلى سايكس–إشعياء (النبؤات الدينية). في هذا السياق، تبرز التجربة الإيرانية بوصفها نموذجًا للدولة التي ربطت شرعيتها بفكرة دينية كبرى: التمهيد لظهور الإمام المهدي. في أدبيات الحوزة الثورية وولاية الفقيه، ولا ينفصل دعم حركات المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن عن هذه الرؤية، حيث يُقدّم الصراع مع إسرائيل كجزء من معركة وجودية تمهّد لظهور المهدي المنتظر. إذ لم تعد القدس فقط رمزًا دينيًا، بل غدت هدفًا وجوديًا في مشروع الخلاص الشيعي. وبموازاة ذلك، تستدعي إسرائيل نبوءة إشعياء عبر خطاب بنيامين نتنياهو، الذي يعتبر مشروع الاستيطان وبناء الهيكل الثالث جزءًا من وعد إلهي، لا مجرد سياسة حكومية. بهذا يتحول الكيان الإسرائيلي من دولة إلى فكرة مقدسة، تُحَصَّن ضد النقد والمعارضة، إذ يُعد أي اعتراض عليها اعتراضًا على مشيئة الرب. وفي سياق ذات الجنون عبّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن هذا التداخل بين الدين والسياسة حين قال بعد ضرب منشآت نووية إيرانية: "لقد اختارني الرب لحماية إسرائيل". لم يكن ذلك انزلاقًا لغويًا، بل تعبيرًا عن عمق العلاقة بين الفكر الإنجيلي المسيحي واللوبي الصهيوني، حيث تتقاطع عقيدة "المجيء الثاني للمسيح" مع ضرورة بقاء إسرائيل قوية ومهيمنة. كل ذلك يكشف كيف تحوّل الدين من منظومة إيمانية إلى أداة لتعبئة الجماهير، لتأمين الشرعية، وتوجيه العنف. الجندي يُقاتل وهو يعتقد أنه ينفذ إرادة السماء، والسياسي يحكم وهو يرى نفسه امتدادًا لنبوءة، والشعوب تُزَجّ في معارك مقدسة ظاهرها روحي، وباطنها سياسي صرف. وحين يُختزل الدين إلى أداة لرسم خرائط النفوذ، لا يعود حاملًا لوعد الخلاص، بل يتحوّل إلى آلية لإعادة إنتاج الصراع، حيث تُستنسخ نبوءات العنف بدلاً من أن يُستثمر الإرث الديني في بناء مستقبل للسلام والتعايش. وفي هذا السياق، يبدو العراقيون من بين أكثر شعوب المنطقة عرضةً لأن يكونوا ضحايا لهذه الحروب العقائدية. فالعراق، بتنوعه الطائفي والجغرافي ووقوعه بين محاور النفوذ الديني المتصارعة، يصبح حقل اختبار دائم للنبوءات المتصادمة. لقد دفع العراقيون أثمان باهضة نتيجة هذه الصراعات طيلة العقود الماضية، بين الاحتلال والحصار والطائفية والإرهاب، وكلها كانت مبررة – بدرجة ما – بخطابات دينية. وإذا لم تُنتزع المؤسسة الدينية من براثن التسييس الجيو-عقائدي، فإن هذا الشعب سيبقى وقودًا لحروب لا ناقة له فيها ولا جمل، سوى أنه وُلد في جغرافيا تحمل إرث النبوءات والدم. وفي نهاية المطاف، نجد أن الحروب التي تُدار اليوم في الشرق الأوسط تُكتب في نصوص قديمة، وتُبرر بخطاب غيبي، لكنها تُموّل وتُسلّح وتُديرها مصالح حديثة. وفي ظل تصاعد هذا الاستخدام المزدوج للدين، تصبح المعركة الحقيقية ليست بين الشرق والغرب، ولا بين المذاهب، بل بين الدين كمحرّك للسلام، والدين كذريعة للهيمنة. ولهذا، تبقى الحاجة ماسّة إلى وعي نقدي يفرّق بين العقيدة والتمكين، بين الإيمان الصادق والمشروع السياسي المغلف بالنبوءة. فالتاريخ لا يرحم الأمم التي تُؤَجَّر معتقداتها لتبرير الحروب، ولا الشعوب التي تُقنِع نفسها بأنها تموت من أجل الجنة، وتقتل الاخر لترسل بروحه للجحيم ، بينما تُستعمل أرواحها لرسم خرائط لمصالح دنيوية ونفوذ سياسي لا أكثر.
#عامر_عبد_رسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العجز المائي والعجز المالي كيف يقود سوء إدارة المياه إلى نزي
...
-
نزيف العملة الصعبة: حين تصبح العمالة الأجنبية عبئًا على الاق
...
-
إيران بعد الضربة الأميركية من الردع النووي إلى معادلة الردع
...
-
العراق في قلب ممرات النقل العالمية: كيف يستثمر في طريق التنم
...
-
الاقتصاد العراقي تحت المجهر
المزيد.....
-
عدسة مصوّر ترصد درب التبانة من إحدى أحلك بقاع المملكة المتحد
...
-
مصر.. ما قد لا تعلمه عن -الحزام الشمسي السحري- وحل مشكلة انق
...
-
عامي أيالون لـCNN: لا أستطيع تبرير ولا الدفاع عما نفعله في غ
...
-
-أين أنظمة السلامة؟-: حريق الكوت يثير الغضب في العراق
-
ماذا نعرف عن أسرار شوارع دبي القديمة التي تتحدى لهيب الصيف؟
...
-
دمشق تتهم مقاتلي السويداء بخرق الهدنة وتستعد لإعادة الانتشار
...
-
الاتحاد الأوروبي يفرض -أقوى- عقوبات ضد روسيا وفرنسا تتطلع لإ
...
-
الانسحاب من السويداء بين الهزيمة وتجنب الفوضى
-
ترامب يوقف الضربة على إيران: ضربة مؤجلة أم معركة مؤطرة؟
-
ألمانيا.. سلطات اللجوء تعاود البت بالطلبات المقدمة من غزة
المزيد.....
-
النظام الإقليمي العربي المعاصر أمام تحديات الانكشاف والسقوط
/ محمد مراد
-
افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار
...
/ حاتم الجوهرى
-
الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن
/ مرزوق الحلالي
-
أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال
...
/ ياسر سعد السلوم
-
التّعاون وضبط النفس من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة
...
/ حامد فضل الله
-
إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية
/ حامد فضل الله
-
دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل
...
/ بشار سلوت
-
أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث
/ الاء ناصر باكير
-
اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم
/ علاء هادي الحطاب
المزيد.....
|