|
حين يغيب الرباط: سقوط المعنى في أثينا وروما
عزالدين جباري
(Azeddine Jabbary)
الحوار المتمدن-العدد: 8394 - 2025 / 7 / 5 - 07:37
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لا تنهض الحضارات بما تملكه من ذهب أو جيوش أو دساتير، بل بما تُقيمه من رباطٍ حيٍّ بين القيمة والمنفعة، بين الروح والمادة، بين الحضور والاتجاه. إن بقاء الأمم مرهونٌ ببنية متماسكة من خمسة أركان، تتساند لتقيم الصرح الحضاري وتُطيل من عمر الازدهار: 1. العدل: يقيم الميزان ويُرسّخ الثقة. 2. الحرية: تطلق الفكر وتحرّر الفعل من قيود الجمود. 3. الكرامة: تحفظ المقام الإنساني وتمنع امتهانه. 4. المعنى الجامع: يوجّه الجماعة نحو غاية تتجاوز المصالح الآنية، ويمنح المؤسسات والسلطة معنى أخلاقيًّا جامعًا (كما في "الفضيلة الجمهورية" في روما قبل انحطاطها). 5. المال: يُمكّن من التشييد والعمران، ويترجم القيم إلى منجزات واقعية. فإذا اختلّ ركن من هذه الأركان، اضطرب البناء. وإذا غاب المعنى الجامع، صار المال وقودًا للفراغ، وأضحت الحرية مدخلًا للتذرر، وانتهى العدل غطاءً لبيروقراطية باردة.
أثينا: الحرية بلا عدالة، والفكر بلا رباط في قلب المجد الأثيني، كانت الفلسفة تتوهج: سقراط، أفلاطون، أرسطو... عقول نادرة فتحت أفق التفكير البشري. ومع ذلك، لم تَسلم أثينا من السقوط. ولم يكن السبب حربًا خارجية فقط، بل خللًا داخليًّا ضرب جوهر المدينة. فقد خاضت أثينا حربًا طاحنة ضد إسبرطة (الحرب البيلوبونيزية)، انتهت بانهيارها السياسي والعسكري. ولم تكن إسبرطة تتفوق بالفكر أو الثروة، بل بالانضباط، وصلابة البنية الجماعية، ووحدة المصير. أما أثينا، فكانت تُستنزف من داخلها: شعبوية تقصي الحكماء، وانقسامات سياسية، وتشرذم في المزاج العام، وانفصال بين الحرية والفكر من جهة، والعدالة والكرامة من جهة أخرى. لكن ما كان أخطر، هو انبناء هذه الحرية الفكرية على نظام عبودية، يحرم جزءًا كبيرًا من السكان من حق الكرامة وواجب المشاركة. لقد كانت أثينا مفعمة بالحرية والعقل، لكنها افتقدت المعنى الجامع الذي يحول العقل إلى حكمة سياسية، والحرية إلى مسؤولية، والجدل إلى بناء أخلاقي. وعبثا حذّر أفلاطون من هذا الخلل حين قال: "الديمقراطية بلا تربية على الخير تتحول إلى فوضى تُمهّد للاستبداد." لم يلق آذانا تُصيخ السمع، فكان السقوط أمرا محتوما. لقد كان سقوط أثينا لحظة انكشاف: العقل بلا رباط أخلاقي يتحول إلى خصومة مستدامة، والحرية من دون عدالة تنقلب عبثًا قاتلًا، والفكر بلا غاية يُفتِّت المدينة من داخلها.
روما: القوة بلا روح، والمؤسسات بلا غاية روما بلغت ذروة المجد: قوة عسكرية، ومؤسسات قانونية متماسكة، ونظام إداري متطور، وثروة هائلة. لكن شيئًا ما انكسر في الروح الرومانية. تحولت الجمهورية التي تأسست على الفضيلة والتضحية، إلى إمبراطورية مترهلة. ثم بعدُ إلى آلة بيروقراطية جوفاء، تُدار بلا روح، وتُحكم بلا أفق. ساد منطق الترف والمنفعة، وغابت الفضائل الجامعة. وأضحى المال غاية، لا وسيلة. وأمست القوانين أداة لضبط الجماهير، لا لتحقيق العدالة. فتفككت الروابط، وذبل الإحساس بالكرامة، وانكمش المواطن إلى رقمٍ في نظامٍ إداري بالغ التنظيم، فارغ المعنى. حين ينتصر منطق الانصياع في السلك على حساب كرامة الفرد وحريته تتكامل أسباب انهيار العمران. ثم جاء الوباء، وتوالت الغزوات. لكنهما لم يكونا أصل الانهيار، بل عوارض كشفت موت المعنى في قلوب الرومان. لم تكن قوة الغزاة أعظم من وَهَنِ الداخل. لقد امتلكت روما المؤسسات، لكنها أضاعت الغاية؛ وامتلكت السلطة، لكنها نسيت العدالة؛ وامتلكت الذهب، لكنها أهدرت الكرامة.
ابن خلدون والصيرورة المنغلقة: التكرار لا الخلق أدرك ابن خلدون في "المقدمة" أن الدول تمرّ بصيرورةٍ دورية: بداوة ←قوة ←ترف ←انهيار. وكتب في حكمة لاذعة: "إذا استحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد، وحصول الترف والدعة، أقبلت الدولة على الهرم." غير أن هذه الصيرورة عنده منغلقة على ذاتها، تعيد إنتاج انهيارها دون مخرج من التكرار، كأنها قدر لا يُرد. وهنا تبرز فلسفة الصيرورة الأصيلة، لا بوصفها مجرد وعي بالصيرورة، بل بوصفها سبيلًا إلى خلق جديد لا يعيد دورة الترف والانهيار، بل يحرّر الفعل التاريخي من التكرار.
فلسفة الصيرورة الأصيلة: الرباط الذي يمنع السقوط في مآسي أثينا وروما، نرى مأساة الكيان الذي امتلك القوة والفكر، لكنه افتقد المعنى الجامع والرباط الأخلاقي. تقترح فلسفة الصيرورة الأصيلة مخرجًا: لا بالتأمل المجرد، ولا بالهروب إلى اليوتوبيا، بل بإعادة تأسيس الرباط الحي بين: • الحقيقة العقلية التي تنير (العلم، والفلسفة، والنقد). • الأخلاق العملية التي توجه (الفضيلة، المسؤولية، العدالة الشاملة). • الكرامة الوجودية التي تحفظ مقام الإنسان ككائن متورط في المعنى، تُقاوم كل اختزال وظيفي أو رقمي له، وتعيد تعريفه من حيث هو حامل لأثر، لا مجرد وحدة إنتاج أو استهلاك.
كيف نُجسّد هذا الرباط؟ 1. ربط التعليم بالفضيلة: بإدماج الأخلاق والكرامة في قلب المناهج العلمية والتقنية. 2. تحويل المال إلى عمران إنساني: عبر تشريعات عادلة، وتوزيع منصف للثروة، وصون لكرامة العامل والمواطن. 3. مؤسسات رقابية مستقلة: تُحوّل الحرية من فوضى إلى مسؤولية، وترتقي بالعدل من مجرد إجراء إلى يَفاع القيمة. 4. خطاب ثقافي جامع: يُعيد تعريف المعنى الجامع للأمة في سياقها، بعيدًا عن الانغلاق أو الذوبان.
خاتمة: السيادة الحضارية في عصرنا وحيث تتحول الديمقراطية في أيامنا إلى استفتاء سريع، وتُختزل الحرية في تفاعل رقمي، فإنّ الرباط الأخلاقي الجامع يصير ضرورة لا ترفًا. بدونه، تعود الشعبوية لتفتك بالحكمة كما فعلت بأثينا، وتُفرّغ البيروقراطية مؤسسات الدولة كما فعلت بروما. إن السيادة الحضارية الحقيقية لا تُبنى على رمال المصالح الآنية، بل على: • العدل الشامل، • والحرية المسؤولة، • والكرامة المصونة، • والمعنى الجامع الحيّ، • والمال الموظَّف في خدمة الإنسان. ليست هذه الفلسفة الصيرورية المتجذرة بأصالة في الواقع والتاريخ مجرد نظرية، بل دعوة حية إلى إقامة الرباط. فإن حضارات بلا رباط، تنهار ببطءٍ صامت، إذ تذوي وهي في كامل ترفها؛ أما حين يُستحضر الرباط، فإنها لا تُخلَّد بالزمن، بل بالمعنى الذي يسري في لُحمتها، ويُنير صيرورتها.
#عزالدين_جباري (هاشتاغ)
Azeddine_Jabbary#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في فضاء الغيبة المصنوعة: نقد لمقال مشير باسيل عون عن -الغيبة
...
-
من مأزق التسلسل إلى إمكان التعيّن: في تأويل الخلق وفق فلسفة
...
-
المتواجِد والدازاين: تأصيلٌ دلاليّ لفارق أنطولوجي بين فلسفة
...
-
الإمكان الترددي وشبكة النبض: نحو تجاوز المفهوم الماهوي
-
ما بعد القطيعة: نحو صيرورة أصيلة في العلاقات الجزائرية الفرن
...
-
ما بعد القطيعة
-
فَرْقُ ما بين الأخلاق والأخلاقيات
-
لغم الوجود
-
منطق الفقهاء
-
الحداثة وفراغ الوجود .
-
الظاهر والباطن، أو محنة الوجود.
-
الحرية نداء الوجود
-
مساواة أم تماثل ؟ بحث في الرؤيا الكونية.
-
هل كل خطاب يحمل حقيقته في ذاته ؟
-
في الموقف الفلسفي، أو الموقف من الحقيقة .
-
في ماهية القول الفلسفي وضرورته .
المزيد.....
-
الرئاسة السورية تتهم -قوات خارجة عن القانون- بخرق هدنة السوي
...
-
العد العكسي يبدأ: هل يكشف ترامب قائمة إبستين السوداء؟
-
لولا دا سيلفا يرفض تهديد ترامب بزيادة الرسوم الجمركية على ال
...
-
الولايات المتحدة تسمح بعودة دبلوماسييها إلى العراق
-
واشنطن تطلب من دبلوماسييها عدم التعليق على انتخابات الدول ال
...
-
رئيس البرازيل: لن أتلقى أوامر من ترامب الأجنبي
-
لماذا شق الاحتلال محورا جديدا يقسم خان يونس إلى شطرين؟
-
ترامب يهدد بمقاضاة صحيفة أميركية تتهمه بإرسال رسالة فاحشة لج
...
-
هل تمهّد العملية الثلاثية في تركيا لتحالف سياسي جديد؟
-
قوات العشائر تخوض اشتباكات في السويداء والداخلية تستعد لدخول
...
المزيد.....
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|