أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيرالله قاسم المالكي - أناشيد














المزيد.....

أناشيد


خيرالله قاسم المالكي

الحوار المتمدن-العدد: 8394 - 2025 / 7 / 5 - 16:32
المحور: الادب والفن
    


الراية، الصمت، والإصغاء

من مدينة ساحلية تطل على خليج يمتدّ نحو بحر، ثم ينحني حتى يبلغ المحيط، ويكون جزءًا منه، تبدأ الحكاية. مدينة قديمة مرت عليها كل العصور، وتركت آثارها مدفونةً في السواحل، في أطرافها، في ساحاتها، وفي صحارى ذاكرة لا تجف.
في هذه المدينة، لا أحد يسأل متى تشرق الشمس، ولا متى تتزين السماء بالنجوم. فالكون هنا لا يُحسب بالأوقات، بل بولادات الأسرار… متى تُولَد؟ من أي رحم؟ ومن أي حلم جديد؟

الصمت هو عنوان المدينة الأوّل، وربما الأخير. والإصغاء، وسيلتها الوحيدة لفهم الحاضر، ولتفكيك ما دونته الأجيال، إما شفهًا، أو نقشًا ممدودًا من الأزل.
الساحة المركزيّة بلا اسم دائم؛ كلّ جيل يطلق عليها اسمًا يتناسب مع واقعه، يمحو ما قبله، أو يخبّئه تحته.
فقط الراية لم تتبدّل.
قائمة منذ قرون.
لا أحد يتذكّر من رفعها، أو متى، أو لماذا.

تَرفرف دون رياح.
تُعلن وجودها فوق صمت المدينة، وسط براكين خامدة، وزلازل لا تُبالي إن سمعت.
صوتها لا يُدرَك إلا لمن اعتزل العزف بعد أغنيته الأخيرة.

قال كاهن مسنّ من أهل المعبد، رجل يُعدّ من العباد القلائل الذين فهموا الأسرار:

“هذه الراية… لا تنتمي إلينا.
وُلدت في زمن لم يعرف الدفوف ولا المزامير.
إنما في ما لم تُصغِ إليه بعد.”

صبيّ اقترب منها يومًا، خطوة واحدة فقط، ذابت قدماه كما يذوب الشمع في وعاء جاف.
صرخت فتاةٌ من مكانٍ قريب:

“من لم يُكلّم أمّه في المهد، لا يسمع رفرفة الراية، ولا ما تقول.”

عرف – أو ظنّ أنه عرف – ثم عاد إلى منزله وبكى، كما تبكي أمٌّ فَقدت طفلها الأوّل.

في الطابق العلوي لمحكمة المدينة،
الصمت هو القاضي.
الحارس يفتح القاعة كل مساء، فيدخل ضباب خفيف، كأنه نفس الأرض المخبّأ.
القاضي كريم العينين، لا يطلب يمينًا، بل يُقرّ الحضور بمن لا يتكلم.
وعند سؤاله: هل سيتكلم هذا الصامت يومًا؟
أجاب أحدهم:

“فاقد الفم لا ينطق… بل يترك للعالم أن يتكلّم من سكوته الموحش.”

تحت القاعة، السجناء يبكون،
لكن الصمت فوق رؤوسهم يعجّ بالضوضاء،
كفنارٍ لا يضيء،
لكن الجميع يرى نوره،
في الظلام.

في كوخٍ بلا مدخل،
تعيش امرأة تُدعى “شهيرة”.
ولدت في سنةٍ شحّ فيها المطر وصمت السحاب.
قال والداها:

“هذه، في صباها، ستسمع في الصمت ما لا يُقال.”

تبنّت الصمت مذهبًا، ولم تنطق حتى تجاوزت سنّ اليأس.
عندها فقط، عرفت متى تهاجر الطيور، ومتى تنتحر الغيوم، ومتى يبكي الجنين في رحم أمّه.

في يومٍ غائم، جاءها شيخٌ ممزق الثياب، يسند نفسه على عكاز، يحمل همومه كأنها أكياس ملح فوق ظهره.
قال بصوت مبحوح:

“سئمت حاجتي… أريد شرابًا يشفيني، شيئًا يداوي الألم.”

نظرت إليه شهيرة،
وأشارت له بالجلوس على حجرٍ محفور في زاوية كوخها،
ثم قالت:

“اسمع أنين أمٍّ ثكلى…
فإن سمعته، نلت ضالّتك، وكنت أنت الراية.
وإن أنكرته، فأنت الصمت بعينه.”

فبكى… لا من وجع،
بل لأنه سمع نفسه لأوّل مرّة.

في قاعة فنٍّ تحت الأرض، كانت اللوحات مقلوبة.
لم تُعرض صور، بل أسئلة، معلقة بخيوط لا تُرى.
إحدى هذه الخيوط كانت تمسك برايةٍ يتبدّل لونها كلّما اقتربت منها.

لاحقًا، فُهِم أنّ الراية تُخفي ما في النفوس،
وتُظهره… لمن يجرؤ على الإصغاء.

في زمنٍ مجهول،
وفي عالمٍ مختزل،
اجتمعت الرموز الثلاثة: الراية، الصمت، والإصغاء.

قالت الراية:

“أنا الوجع العالي… أعرف ما لا يُقال.”

قال الصمت:

“أنا المهجور من الجميع، ولا أحتاج الالتزام.”

قال الإصغاء:

“أنا ما يُقال في كلّ صلاة… أنا السُّبوح.”

ثم سكتوا جميعًا…
كصائمين ينتظرون الإفطار



#خيرالله_قاسم_المالكي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- **رجل في بيت منسي**
- ترتيل أنسية
- تقول: سأرحل…
- بياض في العتمة
- مواويل الرماد
- تأملات مخدوعة
- تعاويذ
- ينابيع
- همسات ظل طليق
- عصافير جريحة
- تناهيد نهار
- حكايات عطشى
- الباب
- درب الموت
- كتاب وصور
- للنور عناوين
- صمت الشبابيك
- صفحات كتاب لمذكرات مسامير وحجر 2
- صفحات كتاب لمذكرات مسامير وحجر1
- صفحات كتاب لمذكرات مسامير وحجر


المزيد.....




- مليون مبروك على النجاح .. اعتماد نتيجة الدبلومات الفنية 2025 ...
- الإعلام الإسباني يرفض الرواية الإسرائيلية ويكشف جرائم الاحتل ...
- صدور نتيجة الدبلومات الفنية برقم الجلوس 2025 تجاري وصناعي وز ...
- بسرعة “هنا” نتيجة الدبلومات الفنية كافة التخصصات على مستوى ا ...
- ظهور نتيجة الدبلومات الفنية 2025.. أعرض نتيجتك بسرعة من “هنا ...
- عاجل.. ظهور نتيجة الدبلومات الفنية emis.gov.eg جميع التخصصات ...
- عاجل.. ظهرت نتيجة الدبلومات الفنية جميع التخصصات “هنا” بسرعة ...
- “رابط مباشر” نتيجة الدبلومات الفنية صنايع وزراعي وفندقي وتجا ...
- ظهور نتيجة الدبلومات الفنية جميع التخصصات الأن على بوابة الت ...
- “الرابط اشتغل” نتيجة الدبلومات الفنية 2025 جميع التخصصات على ...


المزيد.....

- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيرالله قاسم المالكي - أناشيد